"الموتى لا يؤذون": خلطة فنية مُنسجمة، تجمع بين الدراما والرومانسية
نجح الممثل الدنماركي فيغو مورتنسن (1958) في تقديم نفسه، للمرّة الثانية مخرجا سينمائيا مُتمكّنا ومُقنعا، في جديده "الموتى لا يؤذون"، الذي افتتح الدورة 58 (28 يونيو/حزيران ـ 6 يوليو/تموز 2024) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي"، إذْ بدا كأنّه يمتهن الإخراج أساساً. إضافة إلى تمكّنه الإخراجي الملحوظ، وأدائه المتوازن للشخصية الأولى، وصوغه الاحترافيّ للسيناريو والموسيقى التصويرية، جذب الانتباه إلى فيلمه بخلطةٍ فنية مُنسجمة للغاية، تجمع بين الدراما والرومانسية، وتنتمي إلى أفلام الغرب الأميركي ـ الوسترن.
لأنّه ليس وافداً جديداً على الوسترن، إذْ مثّل سابقاً في أفلامٍ منتمية إلى هذا النوع، وفيلمه هذا ليس الأول له ممثلا يقف وراء الكاميرا، استطاع بخبرة وجرأة لافتتين تقديم نفسه مخرجاً مُتمكّناً في هذه النوع الصعب؛ وتقديمه قصة رومانسية خالصة في نوع سينمائي لا تتمحور حبكته أساساً حول الحب والرومانسية، عادة. وذلك من دون تعويل كثير على حبكة، قوامها العنف والمكائد والخيانات وعمليات السطو على العربات والقطارات، والملاحقات والمطاردات على ظهور الأحصنة، مع لعلعة الرصاص في معارك طويلة بين أخيار وأشرار وعصابات متنافسة، وغيرها من أمور معتادة في الوسترن التقليدي.
صحيحٌ أنّ عناصر النوع موجودة في "الموتى لا يؤذون"، لكنّ طرحها يختلف كثيراً عن المعتاد. يكفي أنّها ذات حضور هامشي وغير محوري في الأحداث الرئيسية. وهذا، ربما، سرّ تميّز مورتنسن وإحكامه، بصفته مخرجاً، السيطرة على جوانب فيلمٍ، تحصل أحداثه في ستينيات القرن 19. طبعاً، هناك أعمال عنف متنوّعة، وإطلاق رصاص، ومطاردات بسيطة. لكنّ هذا يُقدّم بشكل واقعي، وبحسب احتياج السياق، وباقتضاب، لا بالمدة الطويلة المعتادة في تلك الأفلام. أيضاً، وكالعادة، يسير الوسترن في سياق خطّي تصاعدي تشويقي، يلاحق الأحداث والأبطال من دون هوادة حتى النهاية. هذا تخلّى عنه مورتنسن إلى حدّ كبير. ففي مشهد الافتتاح، احتضار البطلة الحبيبة وموتها، فيفيان لو كودي (فيكي كريبس)، والحزن البالغ الذي يصيب حبيبها هولغر أولسن (مورتنسن). ثم يبدأ "فلاش باك" طويل جداً، يُعرف في نهايته سبب موت البطلة.
لا يكتفي مورتنسن بهذا. ففي السياق، تتخلّل الأحداث لقطات "فلاش باك" سريعة وطويلة ومربكة ومحيّرة في البداية، يُعرف لاحقاً أنّها تسرد جانباً من طفولة البطلة وتخيّلاتها وأحلامها وأوهامها.
رغم التنفيذ الاحترافي للقطات بواسطة المونتير بيدير بيدرسن، يصعب تفسير إكثار مورتنسن من الـ"فلاش باك". لكن هذا خيار فني وتقني، وتوظيفه إياه، بل كثرة توظيفه إياه وتداخله، والقفزات الزمنية بين الماضي والحاضر، تُسبّب إرباكاً كبيراً للمُشاهد. كما أن لا فائدة فنية ودرامية منها. صحيحٌ أنّها لم تفسد السرد، ولم تكن عائقاً أمام تدفقه، لكنّها لم تُضف جديداً. مثلاً: كلّ ما يتعلّق بماضي البطلة وطفولتها ومشاهدها في الغابة، ثم لقاء الفارس المُدَرَّع. رغم الأهمية النسبية لهذا في تفسير شخصيتها، فإنّ إسقاطها لم يؤثّر كثيراً على فهم الشخصية وتكوينها، باستثناء محاولة الربط بين فقدان فيفيان والدها في الحرب ضد الإنكليز، ومشاركة حبيبها هولغر في الحرب نفسها، ما يُحيل في السياق الإجمالي إلى أجواء الحروب الأميركية، عامة.
يؤدّي مورتنسن دور هولغر أولسن، المهاجر الدنماركي القوي والهادئ والصامت والرزين والوسيم. محارب وعسكري سابق، يُصبح عمدة بلدة صغيرة في الغرب الأميركي. يعيش وحيداً في كوخ صغير في الوادي.
ذات يوم، يذهب إلى السوق، ويلتقي فيفيان، بائعة الزهور الكندية الفرنسية، العزباء المستقلّة، ذات الشخصية القوية الصارمة.
يتعرف أحدهما إلى الآخر، فيحدث انجذاب بينهما، ثم تنمو العلاقة وتتطوّر إلى حبّ صادق وجارف. هذا يدفع فيفيان إلى الانتقال إلى كوخه الخرب المهجور، وتحويله تدريجياً إلى جنّة زوجية ينعمان بها. لكنّ هذه الجنة لا تدوم طويلاً، مع قرار هولغر الانضمام إلى الجيش، للحصول على مبلغ مالي من التجنيد يحتاجان إليه، وللمحاربة من أجل ما يعتقد أنّه لصالح الأمّة الأميركية. ما يعني تركه فيفيان فترة غير معلومة، وربما عدم عودته نهائياً.
لخلق التوازن الدامي وتوليد الصراع، في مقابل الخط الدرامي الرومانسي بين فيفيان وهولغر، وبغية تفجير أزمات تُخرج الشخصيات عن أطوارها للدفاع عن نفسها وحياتها،
تقع أحداث في البلدة التي يسيطر عليها وعلى ناسها رجل أعمال متعجرف يدعى ألفرد جَفريز (غاريت ديلاهَنت).
كما يثير ابنه العنيف وشبه المختل وَسْتون (سولي ماكلاود) الرعب بين الناس، في إدارة عمدة متخاذل ومتواطئ يُدعى رودولف شيلر (داني هوستن)، المتورّط في أمور كثيرة مع ألفريد.
فور ذهاب هولغر إلى الحرب، تتقاطع الخطوط تدريجياً، وتنتهي باغتصاب ويستون لفيفيان، ثم حملها وإنجابها صبياً تسمّيه فنسنت (أتلس غرين).
يعود هولغر بغتة من الحرب، ويُفاجأ بما حدث. تتطوّر الأمور،
ويكون انتقام.
ثم ينكشف سبب وفاة فيفيان، واعتبار هولغر فنسنت ابناً له.
رغم هذا الانجلاء الكلاسيكي للحبكة، لم تكن النهاية موفّقة، خاصة مشهد الختام الطويل نسبياً عند شاطئ البحر، غير المهمّ، الذي لم يضف جديداً إلى النهاية، المعروفة سلفاً.