حمدان بن محمد يلتقي أكثر من 100 من منتسبي الخدمة الوطنية والاحتياطية المتميزين في برنامج النخبة
نموها أبطأ من نمو معظم البلدان الأخرى:
الولايات المتحدة: نهاية وهم القوة المطلقة...!
- عام 1960، كان الاقتصاد الأمريكي أكبر بـ 22 مرة من الصين، ولكن في عام 2020 «يزن» 1.3 مرة فقط على الصين
- يحدث الإجهاد عندما لا تسمح الموارد المتاحة الوفاء بالالتزامات التي تم التعهد بها عندما تكون الموارد أكبر
- إذا كان للولايات المتحدة هدف استراتيجي لا جدال فيه، فهو منع أوروبا من إقامة أي نوع من التعاون مع روسيا
- التهديد الذي يواجه الولايات المتحدة يأتي اليوم من الصين وأوروبا أو اليابان أكثر
- محاولة دق إسفين بين الصين وروسيا هي بلا شك إحدى الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة، إن لم تكن الأولوية الاستراتيجية
«لا أريد المركز الثاني للولايات المتحدة الأمريكية”... هذه العبارة البسيطة -التي نطق بها باراك أوباما بوضوح خلال خطابه الأول عن حالة الاتحاد في يناير 2010 -تلخص في بضع كلمات الأفق الاستراتيجي الأمريكي الحالي. على مدى عقود، كانت الولايات المتحدة في حالة تدهور نسبي سياسي وفكري واقتصادي، مع احتمال أن تتفوق عليها قوة منافسة يومًا ما. ومع ذلك، فإن مشكلتها الرئيسية ليست هذا الانحدار النسبي بحد ذاته، وهو ظاهرة طبيعية، بل عدم القدرة على الاعتراف به، سواء بدافع الكبرياء أو الحسابات الانتخابية أو ببساطة، الجهل.
عام 1986، في كتابه الرائع “صعود وسقوط القوى العظمى”، أوضح بول كينيدي أن القوى العظمى ترتفع وتنخفض على وجه التحديد بسبب نموها غير المتكافئ: وبالتالي فإن العلاقة بين معدلات نموها المختلفة هي التي “على المدى الطويل”، أمر حاسم.
انحدار نسبي وبطيء
باستثناء فترات قصيرة من الركود، لم تتوقف الولايات المتحدة عن النمو. ومع ذلك، منذ خمسينات القرن الماضي، كان نموها أبطأ من نمو معظم البلدان الأخرى في العالم: وبالتالي فإنها تعاني من تراجع نسبي.
بين 1960 و2020، زاد الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (أي بالدولار الثابت) خمس مرات ونصف، ولكن خلال نفس الفترة، زاد الناتج المحلي الإجمالي لبقية العالم ثمانية أضعاف ونصف. وهكذا، بينما استمر الاقتصاد الأمريكي في النمو من حيث القيمة المطلقة، نما منافسوها بسرعة أكبر. علاوة على ذلك، إذا قارناها بمنافستها الرئيسية، الصين، فإن فجوة النمو هائلة: فبينما نما الاقتصاد الأمريكي خمس مرات ونصف، نما الاقتصاد الصيني 92 مرة. بعبارة أخرى، عام 1960، كان الاقتصاد الأمريكي أكبر بـ 22 مرة من الصين، ولكن عام 2020 “يزن” 1.3 مرة فقط على الصين.
يترجم هذا التراجع النسبي في الوزن الاقتصادي والإنتاجي للولايات المتحدة في النهاية بتضييق هوامش العمل السياسي، بسبب ما يسمى بظاهرة “الإرهاق”، والتي هي سبب سقوط بعض الإمبراطوريات الكبرى (من الإمبراطورية الرومانية إلى الإمبراطورية الروسية). يحدث الإجهاد المفرط عندما لا تجعل الموارد المتاحة من الممكن الوفاء بالالتزامات التي تم التعهد بها عندما تكون الموارد أكبر.
بعبارة أخرى، لم يكن بالإمكان الدفاع عن المصالح والالتزامات العالمية التي يمكن للولايات المتحدة أن تدافع عنها بإجمالي ناتج محلي يقارب 3.46 تريليون دولار عام 1960، في وقت واحد عام 1986 بإجمالي ناتج محلي يبلغ 8.6 تريليون دولار، وحتى أقل من ذلك اليوم. وعلى الرغم من اقتراب الناتج المحلي الإجمالي من 22.9 تريليون دولار عام 2021. هذا التناقض ظاهري فقط: بينما مثّل الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي عام 1960 ما يقرب من نصف”46 فاصل 7 بالمائة” من الناتج المحلي الإجمالي لبقية العالم، فقد أصبح عام 2020 أقل من الثلث “30 فاصل 8 بالمائة».
عانى التحليل المتبصر لبول كينيدي للأسف من روزنامة سيئة. بعد ثلاث سنوات من إصدار كتابه، انهارت الأنظمة الموالية لروسيا في أوروبا. وبعد أربع سنوات، اندلعت أول “عقود ضائعة” لليابان، وبعد خمس سنوات، حرب الخليج “التي جمعت واشنطن من أجلها أحد أكبر التحالفات العسكرية في التاريخ”. وفي نهاية نفس العام، 1991، انهار الاتحاد السوفياتي.
أسطورة القوة العظمى الأمريكية
مع تعرض ثاني أكبر اقتصاد في العالم (اليابان) لتباطؤ حاد، ومع زوال الاتحاد السوفياتي، استفاد الانخفاض النسبي في الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة من انقلاب (طفيف وقصير) في الاتجاه.
ونتيجة لذلك، تم نسيان كتاب بول كينيدي.
ثم بدأت فترة كانت الولايات المتحدة مقتنعة فيها بأنها “القوة العظمى الوحيدة” في عالم أحادي القطب، معتقدة أنها يمكن أن تعيد تشكيل العالم على صورتها الخاصة بينما لم تعد لها القوة، وبدأ منافسون جدد في عرض عضلاتهم. الانحدار النسبي للولايات المتحدة ليس بسبب اليابان فقط، وبالتأكيد ليس بسبب الاتحاد السوفياتي، ولكن جراء الاتجاه الذي لا مفر منه نحو التنمية غير المتكافئة. وهكذا بينما أشار كينيدي إلى القمر، اكتفى العالم بالتحديق في إصبعه.
استغل بعض القادة الأمريكيين، مثل جورج بوش وبيل كلينتون، الحادث لمهاجمة الجوهر: كانت حرب الخليج الحلقة الأولى، وكان التدخل في البوسنة هو التالي، وكان توسيع حلف الناتو شرقًا خطوة اخرى، على سبيل المثال لا الحصر.
وتجدر الإشارة هنا أيضًا إلى إعادة الانفتاح التدريجي للصين بعد أزمة تيانانمين -التي ينتقدها الآن الجميع في أمريكا، ولكن تم الاحتفاء بها على نطاق واسع في ذلك الوقت، على الأقل لتجنب السماح للصين بالانفتاح على المستثمرين الأوروبيين واليابانيين فقط.
تم دفع توسع الناتو في التسعينات مرة أخرى إلى قلب النقاش الدولي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. بالنسبة للروس وحلفائهم، فإن هذا التوسيع هو “الخطيئة الأصلية” التي انطلق منها كل شيء، مما يضع، كما يقولون، المسؤولية الكاملة عن “العملية العسكرية الخاصة” التي قام بها فلاديمير بوتين على عاتق واشنطن.
المعركة (الأبدية)؟ بين الولايات المتحدة وروسيا
كما هو الحال في جميع الأيديولوجيات، هناك، في النسخة الروسية، قليل من الحقيقة “مما يجعلها معقولة”. يتعلق الامر هنا بقرار واشنطن الأحادي الجانب بالتموضع، من خلال الناتو، داخل دول وسط وشرق أوروبا المحررة حديثًا من نير روسيا.
من أجل وضع الأمور في سياقها، يجب أن نتذكر توسع الاتحاد الأوروبي في هذه الأراضي نفسها. ولطالما كان توسع الناتو يسبق توسع الاتحاد الأوروبي. من وجهة نظر الأمريكيين، لا يمكن ترك الدول العازلة بين روسيا وقلب أوروبا، والتي كانت محط اهتمام الأمريكيين بعد الحربين العالميتين، والتي أصبحت مرة أخرى موضوعات ساخنة، تحت السيطرة الحصرية للاتحاد الأوروبي، وإلا فإنها ستتوقف عن ان تكون دولا عازلة.
وإذا كان للولايات المتحدة هدف استراتيجي لا جدال فيه، فهو على وجه التحديد منع أوروبا “أو، لكي نكون واقعيين، ألمانيا و - أو أي مجموعة من الدول التي ترتكز على ألمانيا” من إقامة أي نوع من التعاون مع روسيا.
من القلب إلى الحلقة
منذ تعويضهم المملكة المتحدة بصفتها القوة المهيمنة على العالم، ورث الأمريكيون إحدى أشهر نظرياتها: نظرية “قلب الأرض” التي صاغها السير هالفورد ماكيندر، والتي وفقًا لها إذا سيطرت أوروبا من الشرق (وبالتالي ألمانيا) على “قلب الأرض”، “وبالتالي روسيا”، سوف تهيمن على أوراسيا، وبالتالي على العالم.
تم تناول أطروحة ماكيندر أثناء الحرب العالمية الثانية من قبل نيكولاس سبيكمان، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ييل من أصل هولندي، والذي حولها إلى نظرية “ريملاند”، أي “حلقة” من البلدان التي يمكن أن تحيط بـ “القلب».
في صياغة سبيكمان، يصبح التحكم في هذه الحلقة أمرًا حاسمًا للسيطرة على العالم. وقد تمت ترجمة هذه الأطروحة لاحقًا إلى سياسة الاحتواء التي صاغها جورج كينان.
بعد الحرب، تحول القلق بشأن اتحاد قاري أوراسيوي محتمل قادر على تحدي وفي النهاية إسقاط هيمنتها العالمية التي مرت من البريطانيين إلى الأمريكيين. كما أكد هنري كيسنجر علانية:
«في النصف الأول من القرن العشرين، خاضت الولايات المتحدة حربين لمنع هيمنة خصم محتمل على أوروبا ... في النصف الثاني من القرن العشرين “في الواقع، بدءً من عام 1941”، خاضت الولايات المتحدة ثلاث حروب للمطالبة بنفس المبدأ في آسيا -ضد اليابان وكوريا وفيتنام».
وداعا لمفاهيم “مهمة حضارية”، “الدفاع عن الحرية”، “ترسانة الديمقراطية”، أو الحرب ضد النزعة العسكرية أو الفاشية أو الشيوعية ...
التهديد الأوراسي
عندما أطلق فلاديمير بوتين عام 2011 اقتراحه بشأن اتحاد أوراسيا “إحدى المحاولات العديدة لإعادة تشكيل الإمبراطورية الروسية”، بهدف أن يصبح “مكونًا أساسيًا لأوروبا الكبرى ... من لشبونة إلى فلاديفوستوك”، ردّت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بشكل سريع وصريح:
«هناك حركة لإعادة سوفياتية المنطقة. لن تسمّى كذلك، سوف يطلق عليه اتحاد جمركي، ويطلق عليه الاتحاد الأوراسي... لكن لا نخطئ في ذلك، نحن نعلم ما هو الهدف، ونحاول إيجاد طرق فعالة لإبطائه أو منعه».
إذا كان الخطر، الذي يخشاه ماكيندر، وسبيكمان، وكينان، وكيسنجر، وكلينتون، يتمثل في اتحاد قوى محتمل بين قوة صناعية كبرى و “القلب” الروسي، فمن الواضح أن التهديد الذي يواجه الولايات المتحدة يأتي اليوم أكثر من الصين من أوروبا أو اليابان.
دق إسفين بين الصين وروسيا
وهكذا، فإن محاولة دق إسفين بين الصين وروسيا هي بلا شك إحدى الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة، إن لم تكن الأولوية الاستراتيجية.
مع الحرب التي بدأت في 24 فبراير، قدمت روسيا خدمتين عظيمتين للولايات المتحدة: لقد قامت بإعادة توحيد حلف شمال الأطلسي وتوسيعه وتسلحه، مما أدى إلى إزالة إمكانية التوصل إلى اتفاقية مع أوروبا أو حتى مع عدد قليل من الدول الأوروبية، كما عززت عدم ثقة بكين في موسكو.
استفاد الأمريكيون من هذا، لكن الاستراتيجية لا يمكن أن تُبنى على أخطاء الخصم الفادحة. حقيقة أن هناك استراتيجية مفروضة من قبل الظروف “تجنب “المركز الثاني للولايات المتحدة الأمريكية”، على حد تعبير أوباما” لا تعني أن هناك استراتيجية واعية ومعرّفة بشكل واضح.
«لا توجد رياح مواتية للبحّار الذي لا يعرف إلى أين يذهب”، قال سينيكا بحكمة، والولايات المتحدة تشبه هذا البحّار: لم يتم بعد تحديد تراجعها النسبي كما هو، وانقسامها السياسي الداخلي يعني أن أي فرضية استراتيجية ممكنة قد يتم تعديلها -وحتى عكسها -كل أربع سنوات.
من جهة اخرى، لا يزال جزء كبير من الطبقة السياسية في البلاد يتغذى على الحكاية التي رواها كارل روف، مستشار جي دبليو بوش، منذ ما يقرب من عشرين عامًا:
«عندما نتحرك، نخلق واقعنا الخاص”، وبينما يكافح المتخصصون لدراسة هذا الواقع أو فك شفرته، “سنعمل مرة أخرى “اعتمادًا على السياق”، ونخلق حقائق جديدة أخرى».
واليوم، فإن الآلاف من “روف” الموجودين في الطبقة السياسية الأمريكية يقدمون لبلدهم نفس الخدمة التي يقدمها مستشارو بوتين لبلدهم: بنواياهم الحسنة وجهلهم بالإكراهات الجيوسياسية، يمهدون الطريق نحو هذا الذي يمكن أن يتحول بسرعة إلى جحيم.
*أستاذ مساعد، الجغرافيا السياسية والجغرافيا السياسية للأديان، معهد العلوم السياسية بباريس
- يحدث الإجهاد عندما لا تسمح الموارد المتاحة الوفاء بالالتزامات التي تم التعهد بها عندما تكون الموارد أكبر
- إذا كان للولايات المتحدة هدف استراتيجي لا جدال فيه، فهو منع أوروبا من إقامة أي نوع من التعاون مع روسيا
- التهديد الذي يواجه الولايات المتحدة يأتي اليوم من الصين وأوروبا أو اليابان أكثر
- محاولة دق إسفين بين الصين وروسيا هي بلا شك إحدى الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة، إن لم تكن الأولوية الاستراتيجية
«لا أريد المركز الثاني للولايات المتحدة الأمريكية”... هذه العبارة البسيطة -التي نطق بها باراك أوباما بوضوح خلال خطابه الأول عن حالة الاتحاد في يناير 2010 -تلخص في بضع كلمات الأفق الاستراتيجي الأمريكي الحالي. على مدى عقود، كانت الولايات المتحدة في حالة تدهور نسبي سياسي وفكري واقتصادي، مع احتمال أن تتفوق عليها قوة منافسة يومًا ما. ومع ذلك، فإن مشكلتها الرئيسية ليست هذا الانحدار النسبي بحد ذاته، وهو ظاهرة طبيعية، بل عدم القدرة على الاعتراف به، سواء بدافع الكبرياء أو الحسابات الانتخابية أو ببساطة، الجهل.
عام 1986، في كتابه الرائع “صعود وسقوط القوى العظمى”، أوضح بول كينيدي أن القوى العظمى ترتفع وتنخفض على وجه التحديد بسبب نموها غير المتكافئ: وبالتالي فإن العلاقة بين معدلات نموها المختلفة هي التي “على المدى الطويل”، أمر حاسم.
انحدار نسبي وبطيء
باستثناء فترات قصيرة من الركود، لم تتوقف الولايات المتحدة عن النمو. ومع ذلك، منذ خمسينات القرن الماضي، كان نموها أبطأ من نمو معظم البلدان الأخرى في العالم: وبالتالي فإنها تعاني من تراجع نسبي.
بين 1960 و2020، زاد الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (أي بالدولار الثابت) خمس مرات ونصف، ولكن خلال نفس الفترة، زاد الناتج المحلي الإجمالي لبقية العالم ثمانية أضعاف ونصف. وهكذا، بينما استمر الاقتصاد الأمريكي في النمو من حيث القيمة المطلقة، نما منافسوها بسرعة أكبر. علاوة على ذلك، إذا قارناها بمنافستها الرئيسية، الصين، فإن فجوة النمو هائلة: فبينما نما الاقتصاد الأمريكي خمس مرات ونصف، نما الاقتصاد الصيني 92 مرة. بعبارة أخرى، عام 1960، كان الاقتصاد الأمريكي أكبر بـ 22 مرة من الصين، ولكن عام 2020 “يزن” 1.3 مرة فقط على الصين.
يترجم هذا التراجع النسبي في الوزن الاقتصادي والإنتاجي للولايات المتحدة في النهاية بتضييق هوامش العمل السياسي، بسبب ما يسمى بظاهرة “الإرهاق”، والتي هي سبب سقوط بعض الإمبراطوريات الكبرى (من الإمبراطورية الرومانية إلى الإمبراطورية الروسية). يحدث الإجهاد المفرط عندما لا تجعل الموارد المتاحة من الممكن الوفاء بالالتزامات التي تم التعهد بها عندما تكون الموارد أكبر.
بعبارة أخرى، لم يكن بالإمكان الدفاع عن المصالح والالتزامات العالمية التي يمكن للولايات المتحدة أن تدافع عنها بإجمالي ناتج محلي يقارب 3.46 تريليون دولار عام 1960، في وقت واحد عام 1986 بإجمالي ناتج محلي يبلغ 8.6 تريليون دولار، وحتى أقل من ذلك اليوم. وعلى الرغم من اقتراب الناتج المحلي الإجمالي من 22.9 تريليون دولار عام 2021. هذا التناقض ظاهري فقط: بينما مثّل الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي عام 1960 ما يقرب من نصف”46 فاصل 7 بالمائة” من الناتج المحلي الإجمالي لبقية العالم، فقد أصبح عام 2020 أقل من الثلث “30 فاصل 8 بالمائة».
عانى التحليل المتبصر لبول كينيدي للأسف من روزنامة سيئة. بعد ثلاث سنوات من إصدار كتابه، انهارت الأنظمة الموالية لروسيا في أوروبا. وبعد أربع سنوات، اندلعت أول “عقود ضائعة” لليابان، وبعد خمس سنوات، حرب الخليج “التي جمعت واشنطن من أجلها أحد أكبر التحالفات العسكرية في التاريخ”. وفي نهاية نفس العام، 1991، انهار الاتحاد السوفياتي.
أسطورة القوة العظمى الأمريكية
مع تعرض ثاني أكبر اقتصاد في العالم (اليابان) لتباطؤ حاد، ومع زوال الاتحاد السوفياتي، استفاد الانخفاض النسبي في الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة من انقلاب (طفيف وقصير) في الاتجاه.
ونتيجة لذلك، تم نسيان كتاب بول كينيدي.
ثم بدأت فترة كانت الولايات المتحدة مقتنعة فيها بأنها “القوة العظمى الوحيدة” في عالم أحادي القطب، معتقدة أنها يمكن أن تعيد تشكيل العالم على صورتها الخاصة بينما لم تعد لها القوة، وبدأ منافسون جدد في عرض عضلاتهم. الانحدار النسبي للولايات المتحدة ليس بسبب اليابان فقط، وبالتأكيد ليس بسبب الاتحاد السوفياتي، ولكن جراء الاتجاه الذي لا مفر منه نحو التنمية غير المتكافئة. وهكذا بينما أشار كينيدي إلى القمر، اكتفى العالم بالتحديق في إصبعه.
استغل بعض القادة الأمريكيين، مثل جورج بوش وبيل كلينتون، الحادث لمهاجمة الجوهر: كانت حرب الخليج الحلقة الأولى، وكان التدخل في البوسنة هو التالي، وكان توسيع حلف الناتو شرقًا خطوة اخرى، على سبيل المثال لا الحصر.
وتجدر الإشارة هنا أيضًا إلى إعادة الانفتاح التدريجي للصين بعد أزمة تيانانمين -التي ينتقدها الآن الجميع في أمريكا، ولكن تم الاحتفاء بها على نطاق واسع في ذلك الوقت، على الأقل لتجنب السماح للصين بالانفتاح على المستثمرين الأوروبيين واليابانيين فقط.
تم دفع توسع الناتو في التسعينات مرة أخرى إلى قلب النقاش الدولي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. بالنسبة للروس وحلفائهم، فإن هذا التوسيع هو “الخطيئة الأصلية” التي انطلق منها كل شيء، مما يضع، كما يقولون، المسؤولية الكاملة عن “العملية العسكرية الخاصة” التي قام بها فلاديمير بوتين على عاتق واشنطن.
المعركة (الأبدية)؟ بين الولايات المتحدة وروسيا
كما هو الحال في جميع الأيديولوجيات، هناك، في النسخة الروسية، قليل من الحقيقة “مما يجعلها معقولة”. يتعلق الامر هنا بقرار واشنطن الأحادي الجانب بالتموضع، من خلال الناتو، داخل دول وسط وشرق أوروبا المحررة حديثًا من نير روسيا.
من أجل وضع الأمور في سياقها، يجب أن نتذكر توسع الاتحاد الأوروبي في هذه الأراضي نفسها. ولطالما كان توسع الناتو يسبق توسع الاتحاد الأوروبي. من وجهة نظر الأمريكيين، لا يمكن ترك الدول العازلة بين روسيا وقلب أوروبا، والتي كانت محط اهتمام الأمريكيين بعد الحربين العالميتين، والتي أصبحت مرة أخرى موضوعات ساخنة، تحت السيطرة الحصرية للاتحاد الأوروبي، وإلا فإنها ستتوقف عن ان تكون دولا عازلة.
وإذا كان للولايات المتحدة هدف استراتيجي لا جدال فيه، فهو على وجه التحديد منع أوروبا “أو، لكي نكون واقعيين، ألمانيا و - أو أي مجموعة من الدول التي ترتكز على ألمانيا” من إقامة أي نوع من التعاون مع روسيا.
من القلب إلى الحلقة
منذ تعويضهم المملكة المتحدة بصفتها القوة المهيمنة على العالم، ورث الأمريكيون إحدى أشهر نظرياتها: نظرية “قلب الأرض” التي صاغها السير هالفورد ماكيندر، والتي وفقًا لها إذا سيطرت أوروبا من الشرق (وبالتالي ألمانيا) على “قلب الأرض”، “وبالتالي روسيا”، سوف تهيمن على أوراسيا، وبالتالي على العالم.
تم تناول أطروحة ماكيندر أثناء الحرب العالمية الثانية من قبل نيكولاس سبيكمان، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ييل من أصل هولندي، والذي حولها إلى نظرية “ريملاند”، أي “حلقة” من البلدان التي يمكن أن تحيط بـ “القلب».
في صياغة سبيكمان، يصبح التحكم في هذه الحلقة أمرًا حاسمًا للسيطرة على العالم. وقد تمت ترجمة هذه الأطروحة لاحقًا إلى سياسة الاحتواء التي صاغها جورج كينان.
بعد الحرب، تحول القلق بشأن اتحاد قاري أوراسيوي محتمل قادر على تحدي وفي النهاية إسقاط هيمنتها العالمية التي مرت من البريطانيين إلى الأمريكيين. كما أكد هنري كيسنجر علانية:
«في النصف الأول من القرن العشرين، خاضت الولايات المتحدة حربين لمنع هيمنة خصم محتمل على أوروبا ... في النصف الثاني من القرن العشرين “في الواقع، بدءً من عام 1941”، خاضت الولايات المتحدة ثلاث حروب للمطالبة بنفس المبدأ في آسيا -ضد اليابان وكوريا وفيتنام».
وداعا لمفاهيم “مهمة حضارية”، “الدفاع عن الحرية”، “ترسانة الديمقراطية”، أو الحرب ضد النزعة العسكرية أو الفاشية أو الشيوعية ...
التهديد الأوراسي
عندما أطلق فلاديمير بوتين عام 2011 اقتراحه بشأن اتحاد أوراسيا “إحدى المحاولات العديدة لإعادة تشكيل الإمبراطورية الروسية”، بهدف أن يصبح “مكونًا أساسيًا لأوروبا الكبرى ... من لشبونة إلى فلاديفوستوك”، ردّت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بشكل سريع وصريح:
«هناك حركة لإعادة سوفياتية المنطقة. لن تسمّى كذلك، سوف يطلق عليه اتحاد جمركي، ويطلق عليه الاتحاد الأوراسي... لكن لا نخطئ في ذلك، نحن نعلم ما هو الهدف، ونحاول إيجاد طرق فعالة لإبطائه أو منعه».
إذا كان الخطر، الذي يخشاه ماكيندر، وسبيكمان، وكينان، وكيسنجر، وكلينتون، يتمثل في اتحاد قوى محتمل بين قوة صناعية كبرى و “القلب” الروسي، فمن الواضح أن التهديد الذي يواجه الولايات المتحدة يأتي اليوم أكثر من الصين من أوروبا أو اليابان.
دق إسفين بين الصين وروسيا
وهكذا، فإن محاولة دق إسفين بين الصين وروسيا هي بلا شك إحدى الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة، إن لم تكن الأولوية الاستراتيجية.
مع الحرب التي بدأت في 24 فبراير، قدمت روسيا خدمتين عظيمتين للولايات المتحدة: لقد قامت بإعادة توحيد حلف شمال الأطلسي وتوسيعه وتسلحه، مما أدى إلى إزالة إمكانية التوصل إلى اتفاقية مع أوروبا أو حتى مع عدد قليل من الدول الأوروبية، كما عززت عدم ثقة بكين في موسكو.
استفاد الأمريكيون من هذا، لكن الاستراتيجية لا يمكن أن تُبنى على أخطاء الخصم الفادحة. حقيقة أن هناك استراتيجية مفروضة من قبل الظروف “تجنب “المركز الثاني للولايات المتحدة الأمريكية”، على حد تعبير أوباما” لا تعني أن هناك استراتيجية واعية ومعرّفة بشكل واضح.
«لا توجد رياح مواتية للبحّار الذي لا يعرف إلى أين يذهب”، قال سينيكا بحكمة، والولايات المتحدة تشبه هذا البحّار: لم يتم بعد تحديد تراجعها النسبي كما هو، وانقسامها السياسي الداخلي يعني أن أي فرضية استراتيجية ممكنة قد يتم تعديلها -وحتى عكسها -كل أربع سنوات.
من جهة اخرى، لا يزال جزء كبير من الطبقة السياسية في البلاد يتغذى على الحكاية التي رواها كارل روف، مستشار جي دبليو بوش، منذ ما يقرب من عشرين عامًا:
«عندما نتحرك، نخلق واقعنا الخاص”، وبينما يكافح المتخصصون لدراسة هذا الواقع أو فك شفرته، “سنعمل مرة أخرى “اعتمادًا على السياق”، ونخلق حقائق جديدة أخرى».
واليوم، فإن الآلاف من “روف” الموجودين في الطبقة السياسية الأمريكية يقدمون لبلدهم نفس الخدمة التي يقدمها مستشارو بوتين لبلدهم: بنواياهم الحسنة وجهلهم بالإكراهات الجيوسياسية، يمهدون الطريق نحو هذا الذي يمكن أن يتحول بسرعة إلى جحيم.
*أستاذ مساعد، الجغرافيا السياسية والجغرافيا السياسية للأديان، معهد العلوم السياسية بباريس