محمد بن راشد: نسعى لتوفير أفضل نوعيات الحياة للمواطن والمقيم والزائر
"عـدواني".. شـارلوت ريغـان تنتصر للطفـولـة المجـروحـــة
يبدأ الفيلم البريطاني "عدواني" (2023)، لشارلوت ريغان، من مبدأ أساسي ومهم: الظروف القاهرة، أو غير الطبيعية، التي يمرّ بها الإنسان، من شأنها أنْ تحرق المرحلة التي يحيا فيها، كلّياً أو جزئياً. لا يهمّ عمره أثناء حدوث هذا.
هذا جرى للطفلة جورجي (لولا كامبل)، البالغة من العمر 12 عاماً، إذْ أُحرقت طفولتها، وعاشت بدلاً منها عمر شبابٍ، أو مراهقة متقدّمة، عندما وجدت نفسها وحيدة في البيت، بعد وفاة أمّها العزباء كاي (لورا أيكمان)، فحتّمت عليها الظروف أنْ تتصرّف وحدها، وأنْ تجد منفذاً لعيش حياتها الجديدة، انطلاقاً من واقع مختلف، ومعطيات لم تألفها سابقاً. لجأت إلى الكذب على الجميع: معلّميها في المدرسة، وموظّفي الرعاية الصحية، والجيران. أوهمت هؤلاء بأنّها تعيش مع عمّها في بيتٍ واحد، كي لا تُنقل إلى مصلحة الشؤون الاجتماعية.
بدأت جورجي حياتها المستَحْدَثة وفقاً لسياقها. تحصل على المال من احترافها سرقة الدرّاجات الهوائية مع صديقها علي (ألِن أوزون). لكنْ، يحدث ما لم تتوقّع، إذْ بعد أنْ يعرف والدها جيسون (هاريس ديكنسون)، الذي يعيش بعيداً عنها، الخبر، يعود إليها، ويبدأ معها مرحلة أخرى من حياتها، خاصة أنّ الوالد الشاب طائشٌ، ولم يكن يقدر على تحمّل المسؤوليات سابقاً. كما جاء ليطّلع على ما يجري، فيتّخذ قراراً مصيرياً له وللفتاة، وحتّى لروح الأم العزباء.
استمدّ "عدواني" ـ الفائز بالجائزة الكبرى في مسابقة "سينما العالم للأفلام الروائية"، في الدورة 39 (19 ـ 29 يناير/كانون الثاني 2023) لـ"مهرجان صندانس السينمائي" ـ سلوكيات شخصياته من مبادئ علم النفس ونظرياته، خاصة تلك التي تحدّد سلوك البشر وتصرّفاتهم، كـ"العدوانية" (مشتقّة من العنوان)، التي تتّسم بها جورجي. هذا السلوك المرضي لم يأتِ اعتباطاً، بل لديه مسبّبات، أهمّها أنّها عاشت من دون أب، ولم تلقَ اهتماماً لازماً تستحقّه كطفلةٍ، ولم تجد من يقف إلى جانبها، ولم تحقّق رغباتها العاطفية مع الأب؛ إضافةً إلى التنمّر الذي يُمكن أنْ تعيشه فتاة مع أم عزباء، تحمّلت مسؤوليتها كأمّ، وفي الوقت نفسه استحوذت على دور الأب الغائب، الذي لم يتحمّل مسؤولية أخطائه وتجاربه العاطفية. هناك أيضاً المستوى المعيشي المتدنّي، بسبب عيشها في ضاحيةٍ لا تتوفّر على أساسيات حياتية كثيرة، وفي منزل مؤجَّر لا يُعاش فيه بأمان، خشية التنقّل إلى فضاء آخر، خاصة بعد خلق علاقات اجتماعية جديدة فيه.
وسط هذه التراكمات المأساوية الكثيرة، عاشت جورجي، قبل أنْ تجد نفسها لاحقاً من دون أمّ. هذا صنع سلوكها العدواني، الذي واجهت به والدها، الوافد الجديد على حياتها. ورغم أنّه سببٌ رئيسي في خلق ذاك السلوك، أظهر نوعاً من التفهّم، واستطاع امتصاص جزءٍ من غضبها على الحياة. بهذه الطريقة، شُخِّصت عللها، إذْ حاولت أنْ تظهر كفتاة قوية، تتحمّل مسؤولية نفسها وليست بحاجة إلى مسؤولٍ عنها. لهذا، كذبت على الجميع لتُحقّق انتصاراتها الظرفية على الأفراد والحياة. في الأعمال، هي طفلة هشّة، تشعر بفراغ عاطفي رهيب. ومن شدّة هذا الفراغ، أرادت أنْ تبني برجاً في غرفةٍ في المنزل، لتستطيع اللحاق بأمها في السماء. هذا منطلق عاطفي شديد الحساسية، أظهر ضعفها وقهرها وتأثّرها بهذا الفَقْد العظيم.
يُنبِّه "عدواني"، الذي اختير رسمياً خارج مسابقة الدورة 6 (14 ـ 21 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"مهرجان الجونة السينمائي"، إلى ضرورة خلق مساحة مؤاتية وبيئة مناسبة للأطفال، حفاظاً على سلوكهم العادي وعدم محاصرتهم بمشاكل تتناسل منها أمراض نفسية عدّة، وأخرى يمكن أنْ تكبر فتُوَرّث لأجيال عدّة، وبالتالي تتوسّع السلوكيات المرضية وتأخذ لنفسها مساحات أوسع يُمكن أنْ تصل من خلالها إلى فئات مجتمعية مختلفة. إضافةً إلى ضرورة تحمّل الناضجين المسؤولية وتصحيح أخطائهم بدل تركها للفراغ، لأنّه لا يمكن لأيّ عقدة أنْ تُحَلّ بنفسها. كما أنّ المشاكل كلّما تُركت لفترةٍ أطول، كبرت وصَعُب إيجاد حلول مناسبة لها.
هذا حدث بالضبط مع جيسون وكاي، بعد تنصّل الأول من مسؤولياته وفراره بعيداً، تاركاً كاي تواجه مصيرها وحدها. من هنا تراكمت المشاكل في تلك المرحلة، وتناسلت عللٌ عدّة، لعلّ أهمها وأكبرها الحياة المعقّدة لجورجي، التي جعلتها كائناً عدوانياً، والتي أحرقت طفولتها سريعاً. وهذه مرحلة تُعدّ أهمّ وأجمل ما يمرّ به الإنسان في محطّاته العمرية المختلفة.
أظهرت شارلوت ريغان (30 عاماً)، موهبتها الكبيرة في "عدواني"، أوّل فيلم روائي طويل لها. ورغم صغر سنها، نجحت في الرهان، خاصة أنّ لها رصيداً في هذا المجال، الذي دخلته باكراً من حياتها، إذْ أنجزت مواد مُصوّرة كثيرة، قبل تجاوزها 15 عاماً من عمرها. اختير فيلمها القصير "انتظار" في مسابقة "مهرجان تورنتو"، وترشّح لجائزة "بافتا" كأفضل فيلم بريطاني قصير (2016).
الأجمل من هذا أنّ عمرها في ذلك الوقت لم يكن يتجاوز 18 عاماً، ما سلّط الضوء على موهبتها، كما تنبّأ كثيرون لها بمستقبل سينمائي كبير. "عدواني" يؤكّد تلك الاستشرافات السينمائية، خاصة أنّها كاتبة السيناريو، وهذا معطى أساسي منح القصة بُعداً موضوعياً، لأنّها لم تخرج من الطفولة إلّا منذ سنوات قليلة، ما جعلها قريبة من عوالم الأطفال، فاقترب الفيلم من عوالمهم ومشاكلهم.
انتصرت شارلوت ريغان للطفولة المجروحة، وحمّلت المسؤولية للمجتمع والأشخاص الذين تنصّلوا من مسؤولياتهم وساهموا بطريقة أو بأخرى في زرع علل نفسية كثيرة في أبنائهم. ورغم قوّة الموضوع، لم تنسَ ريغان جوانب أخرى تصنع الفيلم، منها التصوير (مولّي مانينغ ووكر)، الصافي والمُعبّر والمتسق أساساً مع التيمة. كما أظهرت الممثلة الصغيرة لولا كامبل مقدرة رهيبة على عيش الدور، وعكسه في الشخصية، ما أعطى للعمل مصداقية أكبر وساهم بشكل رئيسي في خلق جسر تواصل قوي بين المُتلقّي والفيلم.
جماليات "عدواني" متعدّدة ومتنوّعة، منها طريقة البناء، التي راعت فيها ريغان مرتكزات التشويق والإثارة، مع المحافظة على سلاسة تقديم القصة وتطويرها، والذهاب بها إلى الذروة بتأنٍّ واضح، إذْ كانت تعي جيداً أدوات تقديم قصة جيدة من وجهة نظر طفولية. بمعنى أنّها استعارت عيون الأطفال عندما كتبت السيناريو، والاستعارة خدمت كلّ عناصره المتعدّدة، ليكون الفيلم جيّداً في مستويات عدّة، ويعكس موهبتها، ويُبشِّر بسينمائيّة مُقتدرة.