كيف استحالت نيجيريا مختبراً للسيطرة على أفريقيا بين أمريكا والصين؟

كيف استحالت نيجيريا مختبراً للسيطرة على أفريقيا بين أمريكا والصين؟

تشهد أفريقيا، في وقت يتركز فيه الاهتمام الدولي على التوترات في الشرق الأوسط وأوكرانيا، مؤشرات على تحول إستراتيجي أعمق، تبرز من خلالها نيجيريا بوصفها محوراً ناشئاً في التنافس بين الولايات المتحدة والصين.
ويرى خبراء أن هذا التحول لا يرجع إلى عوامل داخلية فقط، بل إلى ما تمثله نيجيريا من ثقل ديموغرافي واقتصادي، فضلاً عن موقعها الحاسم في خريطة الطاقة والمعادن في القارة.
ويشير الخبراء إلى أنه مع التغيرات المتسارعة في مواقف واشنطن وبكين خلال الفترة الحالية، باتت نيجيريا مرشّحة لتكون مركز الثقل الجديد في هذا التنافس العالمي المتعدد المستويات.
ويتجاوز هذا الاشتباك مسألة النفوذ الاقتصادي أو التقني، ليصل إلى اختبار موازين القوة على مستوى عالمي، في سياق أوسع يعيد رسم أولويات السياسة الخارجية الأميركية، ويضع الصين أمام تحدٍّ إستراتيجي في عمق أفريقيا.
لذا، فإن ما يجري في نيجيريا لا يمكن عزله عن السياق الدولي الأوسع، من أوكرانيا إلى بحر الصين الجنوبي، ولا عن إعادة تعريف أدوار اللاعبين الإقليميين في القارة الأفريقية. 
وأعادت التصريحات الأخيرة الصادرة عن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن نيجيريا، تسليط الضوء على موقع هذا البلد الأفريقي في التوازنات المتغيرة بين القوى الدولية، المتمثلة في الولايات المتحدة والصين.
فخلال يومين، بدا التصعيد – الذي تخلله تلويح باستخدام أدوات القوة لحماية ما وُصف بأنه “الوجود المسيحي المهدد” – خارجاً عن السياق التقليدي الذي اتسمت به علاقات واشنطن بأبوجا في السنوات الماضية، لكنه لم يأتِ معزولاً عن خلفية أوسع من التنافس المتزايد على النفوذ في غرب أفريقيا.
وتبع ذلك موقف صيني مبدئي أكد على احترام السيادة الوطنية، ورفض استخدام الدين كمدخل للتدخل، لتُفتح بذلك مسارات جديدة لتحليل العلاقة المتشابكة بين واشنطن وبكين داخل واحد من أكثر البلدان الأفريقية حساسية، من حيث: الكثافة السكانية، والثروات الطبيعية، والتقاطعات الجيوسياسية.

تحوّل في المقاربة الأمريكية
وقال مصدر أمريكي رفيع، لـ”إرم نيوز”، إن تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن نيجيريا، تعكس تحوّلاً متصاعداً في الخطاب الأمريكي إزاء القارة الأفريقية، وتحديداً تجاه مراكز الثقل الجيوسياسي فيها.
وأشار المصدر إلى أن نيجيريا لم تعد تُعامل فقط بوصفها أكبر اقتصاد أفريقي أو شريكاً في مكافحة الإرهاب، بل باتت تُصنّف في تقارير داخلية متقدمة كـ”نقطة ارتكاز إستراتيجية”، وسط تصاعد القلق من التمدد الصيني في مجالات الطاقة والمعادن والبنى التحتية الدفاعية.
وأوضح المصدر الدبلوماسي أن ما يدور في الأروقة الأمريكية لا يقتصر على خطاب ترامب التنافسي، إنما يشمل تقديرات أكثر اتزاناً داخل مؤسسات صنع القرار.
ورغم أن التصريحات تبدو مشحونة بأبعاد تنافسية واضحة، إلا أن بعض الدوائر الأمريكية ترى في الاستقرار النيجيري مصلحة إقليمية في أفريقيا تتجاوز الحسابات الثنائية.
وثمة إدراك متنامٍ بأن فقدان نيجيريا لتوازنها سيؤدي إلى موجات اضطراب تتجاوز غرب أفريقيا، وقد تمتد إلى الساحل، والبحر المتوسط، وحتى الحدود الأوروبية”، بحسب تعبيره.
وأضاف المصدر أن النقاش في واشنطن بات يدور حول كيفية إعادة هيكلة أدوات النفوذ الأمريكي في أفريقيا بطريقة تضمن استدامة الشراكات، دون أن تتحول المنطقة إلى ساحة مواجهة مباشرة مع الصين. فالأمر لم يعد مجرد سباق مصالح تقليدي، إنما هو رهان على صياغة مستقبل الحكم والموارد في أكبر بلدان القارة وأكثرها حساسية.وفي سياق مواز اعتبر أن التصريحات التي أطلقها ترامب بشأن الوضع الديني في نيجيريا يمكن أن تحمل، بشكل غير مباشر، توجهاً أكثر وضوحاً في الإستراتيجية الأمريكية الخاصة بغرب أفريقيا، وتحديداً تجاه نيجيريا التي تمثّل، بحسب تعبيره، “حلقة مركزية في أي إعادة تموضع أمريكي في القارة».

نيجيريا تحت المجهر الأمريكي
وأضاف المصدر، أن البيت الأبيض يعتبر أن التأثير الصيني داخل نيجيريا وصل إلى مستويات تمسّ التوازن التقليدي للعلاقات في المنطقة، سواء فيما يخص البنية التحتية أو العقود طويلة الأمد في قطاعات الطاقة والمعادن.
وأشار إلى أن الإدارة الأمريكية، وعلى الرغم من تمسكها العلني بمبادئ السيادة والشراكة، ترى أن “التمدّد الصيني داخل نيجيريا تجاوز الخطوط التقليدية للاشتباك الاقتصادي، ودخل مرحلة التأثير الممنهج على النسيج المؤسسي والحوكمي للبلاد، خاصة في ملفات الطاقة، البنية التحتية، والمعادن الإستراتيجية المرتبطة بسلاسل الإمداد العالمية».
وأوضح أن البيت الأبيض ينظر إلى نيجيريا، حالياً، بوصفها مختبراً لتوازنات القوة في أفريقيا، وأن انكشافها أمام الشراكات الأحادية مع بكين “قد ينتج عنه تغييرات طويلة الأمد في معمار النفوذ الدولي، خاصة في منطقة الساحل وخليج غينيا».
وأضاف أن ترامب وجّه بالفعل فريق الأمن القومي إلى تقييم الخيارات المتاحة لـ”ضمان بقاء نيجيريا ضمن الفلك الإستراتيجي الذي يحفظ المصالح الغربية، من دون التورط في أنماط الهيمنة الكلاسيكية أو منطق المواجهة المفتوحة».
وشدد المصدر على أن الولايات المتحدة “لا تسعى إلى نزع النفوذ عن أطراف بعينها بقدر ما تسعى إلى إعادة ضبط الإيقاع”، موضحاً أن المقاربة الأمريكية الجديدة ترتكز على مفهوم “المنافسة الذكية” من خلال أدوات اقتصادية وأمنية وابتكارية، وليس من خلال إعادة إنتاج نماذج التدخل التقليدية.
وختم المصدر بالقول إن الأشهر المقبلة قد تشهد ملامح سياسة أمريكية جديدة تجاه نيجيريا تتضمن “انخراطاً إستراتيجياً متعدد المسارات”، يشمل دعم البنية التحتية الرقمية، مشاريع أمنية مشتركة، وتحالفات جامعية وتقنية تعيد تصحيح الخلل في التوازنات القائمة، من دون إغفال البُعد السيادي النيجيري أو التحديات الداخلية المرتبطة بالهوية والاستقرار السياسي. 

مختبر النفوذ في قلب أفريقيا
وتشكل نيجيريا بثقلها السكاني (أكثر من 220 مليون نسمة)، ومواردها الاقتصادية (كونها من أكبر منتجي النفط في أفريقيا)، وموقعها الجغرافي (على بوابة المحيط الأطلسي غرباً وامتدادها إلى الداخل الأفريقي)، حجراً مركزياً في التوازنات الإقليمية للقارة.هذه العوامل مجتمعة تجعلها مساحة جذب إستراتيجي لأي قوة كبرى تسعى إلى تعزيز حضورها في أفريقيا دون صدام مباشر.في هذا السياق، لا تبدو نيجيريا فقط سوقاً ناشئة أو شريكاً تنموياً، إذ تتحوّل تدريجياً إلى مختبر لتجريب أدوات النفوذ الناعم، سواء من خلال الاستثمارات أو الاتفاقيات الأمنية أو تكنولوجيا البنى التحتية.
بالنسبة لواشنطن، تتجاوز أهمية نيجيريا بعدها الاقتصادي إلى بعدٍ أمني وسياسي بالغ الحساسية. فنيجيريا تعد مركزاً للعمليات الإقليمية في مكافحة الإرهاب، ومرتكزاً إستراتيجياً في مواجهة التهديدات العابرة للحدود، مثل جماعة “بوكو حرام” وتنظيم “داعش – غرب أفريقيا».

هذا ما يجعل التعاون الأمني والاستخباراتي بين الطرفين ثابتاً رغم التوترات الظرفية.
إضافة إلى ذلك، تحتفظ شركات النفط الأمريكية بحضور تقليدي في نيجيريا، خاصة في مناطق الإنتاج الساحلي، مع ارتباطات في البنى التحتية الخاصة بالاستخراج والنقل.
لكن التحدي الأكبر الذي تواجهه واشنطن، اليوم، ليس الحفاظ على هذا النفوذ، إنما إعادة تفعيله في مواجهة تمدد الصين بهدوء داخل قطاعات ذات طابع استراتيجي طويل الأمد، مثل: السكك الحديدية، تكنولوجيا الاتصالات، وشبكات الطاقة المتجددة.
من جهتها، تعمل الصين على مراكمة حضورها عبر أدوات غير صدامية؛ مثل: القروض الميسّرة، ومشاريع بنى تحتية ضخمة، وتمويل مشاريع إنتاجية في قطاعات حيوية كالنقل والطاقة.
وشهدت نيجيريا، خلال السنوات الماضية، تدفقاً صينياً متزايداً، توّج باتفاقيات في مجال المعادن، خاصة الليثيوم والنحاس، ما يضع الصين في موقع متقدم في سلسلة الموارد التي تدخل في الصناعات الحديثة (من السيارات الكهربائية إلى تكنولوجيا الاتصالات).
وتعتمد بكين في إستراتيجيتها على تقديم نفسها كشريك عملي بعيد عن الاشتراطات السياسية، وتُبرز نموذجها كمقابلٍ “واقعي” للشراكات الغربية القائمة على شروط الحوكمة والمساءلة.
لكن توسع الصين بهذا الشكل لا يخلو من توتر داخلي، فبكين تدرك أن أي تحوّل أمريكي مفاجئ في السياسة الأفريقية قد يؤدي إلى عرقلة مشاريعها، أو إعادة التفاوض على اتفاقيات كانت تُصنّف على أنها مستقرة.

إعادة ترتيب الأوراق
الباحث النيجيري أكينوالي أديغبو، المتخصص في شؤون الأمن والتنمية، يرى أن تصريح الرئيس ترامب بشأن الوضع الديني في نيجيريا لا يمكن فصله عن حسابات سياسية داخلية في الولايات المتحدة تتقاطع مع اعتبارات جيوسياسية أكبر.
ويقول، في حديثه لـ “إرم نيوز”، أن ذكر نيجيريا بهذه الطريقة لم يكن مفاجئاً بالنسبة للدوائر النيجيرية المتابعة، لكنه أثار انقساماً في تفسير خلفياته.
فالبعض رآه جزءاً من حملة تعبئة داخلية أمريكية، فيما رآه آخرون إشارة مبكرة إلى أن واشنطن بصدد إعادة بناء مداخل نفوذها في أفريقيا عبر البوابة القيمية – حقوق الإنسان والحريات الدينية.
ويُشير إلى أن هذا النمط من الخطاب، على الرغم من لغته المباشرة، يحاكي أدوات استخدمتها واشنطن، مراراً، في السابق لتبرير دخولها في معارك نفوذ غير معلنة.
وبرأيه، فإن المقاربة الأمريكية تُحاول إضفاء طابع أخلاقي على سلوك إستراتيجي يتصل فعلياً بالخوف من توسّع النفوذ الصيني.
ويرى أن نيجيريا تعيش، الآن، لحظة جيوسياسية دقيقة. فبينما يتصاعد الضغط الأمريكي لاستعادة تأثيره، تواصل الصين توسيع شراكاتها في قطاعات حيوية، أبرزها المعادن الإستراتيجية والبنى التحتية.ويضيف أن أبوجا؛ رغم ما يبدو من انفتاح على الشراكتين، لا تريد أن تجد نفسها محشورة في صراع غير متكافئ، خاصة أن ذاكرة النخب السياسية النيجيرية لا تزال مشبعة بتجارب التبعية المشروطة.

ارتدادات داخلية 
ويحذّر أديغبو من أن أي تموضع حاد لأي من الطرفين قد يخلق ارتدادات داخلية، خاصة إذا تم تحميل خطاب واشنطن بوعود لا تُصرف، أو إذا بدا أن مشاريع بكين تفرض قيوداً سيادية على القرار الوطني.
ويعتبر أن أحد أبرز تحولات السنوات الأخيرة في نيجيريا هو بروز تيار داخل مؤسسات الدولة يرفض الانخراط غير المشروط في محاور النفوذ الدولية، ويميل إلى إدارة العلاقات الخارجية بمنطق “الاستفادة المتوازنة” دون “الولاء الإستراتيجي”. وبرأيه، فإن هذه المقاربة هي ما يُفسّر حرص أبوجا على عدم إصدار مواقف علنية صدامية لا مع بكين ولا مع واشنطن.ويضيف أن جزءاً من الطبقة السياسية في نيجيريا أصبح يدرك أن الانحياز العلني لطرف دولي قد تكون كلفته داخلية، خاصة في بلد متعدد المكوّنات ومفتوح على التسييس الخارجي للصراعات الدينية والإثنية.
ويشدد أديغبو على أن أحد أخطر ما في المشهد الحالي هو أن تصاعد التنافس الدولي يُحدث فجوة بين أولويات الدولة وأولويات المجتمع. ففي حين تركّز النخب على التموضع الجيوسياسي، تواجه المجتمعات المحلية تحديات ميدانية تتعلق بالأمن الغذائي، انهيار البنى الصحية، وتدهور فرص العمل.
ويختم بالقول: “حين تتحول أجندة التنمية إلى مسرح للاختراق السياسي الخارجي، يصبح من الصعب على الدولة أن تُقنع شعبها بأن السيادة باقية فعلاً في يدها».

استرداد أمريكي وتريّث أوروبي
الخبير الألماني لوران شتاينر، المتخصص في سياسات الاتحاد الأوروبي والعلاقات الأفريقية، ياعتبر أن التصعيد الأمريكي الأخير، يعبّر عن تحوّل في المزاج الأمريكي أكثر منه تحوّلاً في السياسة الرسمية. فالتعامل مع نيجيريا كمنصة إستراتيجية قابلة للاسترداد يعبّر عن إدراك متأخّر لحجم النفوذ الصيني المتراكم، والذي لم يكن يُنظر إليه قبل سنوات بهذه الجدية.
وقال خلال حديثه لـ”إرم نيوز”، إن أوروبا – وإن لم تكن حاضرة بقوة في هذا التنافس – إلا أنها تراقب بقلق متصاعد طبيعة الاصطفاف الحاصل. ففي حال انجرفت واشنطن نحو تدخل أكثر حزماً في الحزام الاقتصادي الأفريقي، فإن ذلك قد يعيد تشكيل العلاقات بين القوى الدولية والأنظمة الإفريقية، ويضع أوروبا أمام استحقاقات جديدة في ملفات الطاقة والحدود والهجرة.ولفت إلى أن نيجيريا ليست مجرد دولة ذات ثقل اقتصادي، إنما تمثل حالة إقليمية مركبة تحمل داخلها تناقضات كامنة. ولذلك، فإن دفعها إلى تبنّي أحد المعسكرين قد يكون محفوفاً بمخاطر طويلة المدى.
وأردف قائلاً: “إذا تحوّلت نيجيريا إلى بوابة لإعادة إدخال أمريكا إلى أفريقيا، فقد لا يبقى من موازين الشراكة سوى القليل. لكن إذا تُركت لبكين وحدها، فإن قواعد اللعبة الاقتصادية ستتغيّر حتماً».