لا تزال هذه معركة صعبة ومكلفة لكييف

كيف يقيس الواقعيون تعثر هجوم أوكرانيا المضاد؟

كيف يقيس الواقعيون تعثر هجوم أوكرانيا المضاد؟

تطرق الأستاذ المتميز في دراسات الحروب بجامعة كلية الملك في لندن لورنس فريدمان، إلى حجج الواقعيين لاستنتاج أنه لا يمكن لأوكرانيا الانتصار في هجومها المضاد.
وكتب في مجلة “نيوستيتسمان” كيف يتوقع الأستاذ في جامعة هارفارد غراهام أليسون القليل من المكاسب الإقليمية، حيث أشار إلى الصعوبة التي يواجهها الجانبان للتغلب على الدفاعات الحازمة وفي حشد “المزية العددية، التي تساوي ثلاثة مقابل واحد، والتي تحتاجها عادة القوات الهجومية لتحقيق اختراق».
وكتب كريستوفر لاين من جامعة تكساس أي أند إم مع بنيامين شوارتز أنه لا يمكن لأوكرانيا استعادة كل أراضيها، مع أنهما استبعدا أيضاً أن تحقق روسيا تقدماً مهماً.
 
وذهب جون ميرشايمر من جامعة شيكاغو أبعد من ذلك. وأكد أن روسيا “ستنتصر في نهاية المطاف”، ليس بغزو كل أوكرانيا ولكن بضم “مساحة شاسعة من الأراضي الأوكرانية، مع تحويل أوكرانيا إلى دولة متقلصة مختلة وظيفياً”. وأضاف “الأوكرانيون في وضع غير مؤات في هذه المواجهات لأن للروس ميزة كبيرة في القوة النارية”. حتى إن ميرشايمر رفض الادعاءات بأن روسيا عانت من خسائر أكثر من أوكرانيا لمجرد أن “روسيا لديها مدفعية أكثر بكثير من أوكرانيا».
 
 ثلاثة إلى واحد
حسب فريدمان، تعود ميزة ثلاثة إلى واحد التي أشار إليها أليسون إلى التفكير الألماني في القرن التاسع عشر في الشروط الضرورية لمعارك اختراق ناجحة بين الجيوش الضخمة. وفي 1989، كتب ميرشايمر واحدة من المقالات العلمية القليلة عن الموضوع. إحدى الحالات التي درسها كانت معركة أوكرانيا في المراحل الأولى من الغزو الألماني للاتحاد السوفيتي عندما واجهت تسعة فرق ألمانية مؤلفة من نحو 155 ألف رجل، فرقتين سوفيتيتين ضعيفتين من نحو 24 ألفاً. حينها تمتع الألمان أيضاً بالتفوق في القوة الجوية والدبابات. لم يواجه الألمان صعوبة كبيرة في الاختراق وهذا غير مفاجئ. لكن لا قاعدة ثابتة هنا.
من الواضح أن التمتع بتفوق ساحق في الأرقام عند شن هجوم، أمر مفضل. لكن هذا لا يعني أن الجيش المهاجم يجب أن يكون على الأقل ثلاثة أضعاف حجم الجيش المدافع.
يمكن لعوامل عدة أن تحدث فرقاً، المعنويات، وتدريب القوات، وكمية ونوعية المعدات وتقييم القادة. ينصح بتأمين التفوق في الموقع الذي يشن الهجوم عبره، ولكن يمكن تحقيق ذلك حتى عندما يكون التوازن الإجمالي للقوى غير موات. الصدام العظيم للجيوش في معركة نابوليون شيء، والاشتباكات الصغيرة العديدة، التي ميزت هذه الحرب شيء آخر.
 
جوع ومدد وهاجِم
صحيح أن تركيز قوة كبرى لتعبئة أقصى قدر ممكن من الضربات أمر صعب للغاية في الظروف الحالية في شرق أوكرانيا. من المحتمل رصد مثل هذه القوة سريعاً مع تعرضها لنيران العدو. وفي هذا الصدد، فإن ميرشايمر محق في قوله إن هذه حرب استنزاف، على الأقل في الوقت الحالي. لكنه يخطئ حين يقدم ذلك على أنه مبارزة مدفعية بسيطة، الميزة فيها لروسيا. القضية هي إذا كانت للقوات الأوكرانية الاستراتيجية والتكتيكات للخروج من مرحلة الاستنزاف في وضع أفضل من الروس.
خلال جلسة استماع أمام لجنة الدفاع في مجلس العموم، وصف قائد الجيش البريطاني الأدميرال توني راداكين نهج أوكرانيا بـ”جوع ومدد وهاجم”. ويشير مصطلح “التجويع” إلى الهجمات المنتظمة على اللوجيستيات، والهياكل القيادية الروسية، و”التمديد” إلى “المحاور المتعددة التي تقوم أوكرانيا عبرها بالاختبار والخداع».
هدف القوات الأوكرانية هو الاستفادة من طول الخط الأمامي الذي يزيد عن ألف كيلومتر. بالنظر إلى أن كل هجوم يتطلب رداً، فقد يؤدي ذلك إلى الدفع التدريجي بالاحتياطات الروسية. “الهجوم” هو الأمر الذي لا نزال ننتظره حسب فريدمان. سيتحقق ذلك عندما يكون بالإمكان دفع الجزء الأكبر من 12 لواء أوكرانياً حديثاً إلى المعارك، علماً أن ثلثي هذه الألوية لا يزالان بعيدين عن الحرب. هذا هو سبب قول راداكين وآخرين  إن الهجوم المضاد الكامل لم يبدأ. لذلك هذا هو نهج مرحلي.
 
استراتيجية روسيا
يعتمد نجاح استراتيجية أوكرانيا على استراتيجية روسيا. اختار القادة الروس تجنب اللجوء إلى الدفاع السلبي. بدل  ذلك، سعوا إلى حرمان القوات الأوكرانية من أي مكاسب على الإطلاق. لذلك عندما تحرر أوكرانيا قرية مثلاً، يشن هجوم روسي مضاد بشكل سريع. رغم أن معظم هذه الهجمات المضادة لم ينجح، قد يكون الهدف الروسي ببساطة مواصلة الضغط على أوكرانيا حتى لا تتمكن من تعزيز أي مكاسب. يؤدي ذلك إلى بعض الاشتباكات الشرسة، لكنه يناسب أوكرانيا أيضاً على الأرجح، لأنه يعني أن القوات الروسية تصبح أكثر عرضة للخطر عندما تبتعد عن مواقعها المخفية والمحمية.
في وقت مبكر من الهجوم، أوضح جاك واتلينغ من المعهد الملكي للخدمات المتحدة سبب رغبة أوكرانيا في دفع الروس احتياطاتهم إلى الأمام من “خط دفاعهم الثالث” إلى أي قطاعات تواجه ضغوطاً، فقال: “بمجرد سحب هذه القوات إلى الأمام، سيسهل تحديد نقاط الضعف في الخطوط الروسية، حيث لن يقابل الاختراق بوحدة دفاعية جديدة من القوات التي أعيد تموضعها”. وهذا هو السبب أيضاً في أهمية الامتداد، حيث إن الجمع بين الجبهة الطويلة والشك في المكان الذي سيطلق منه الجهد الأوكراني الرئيسي يحد من “القدرة الروسية على تكديس الوحدات في العمق».
 
معضلة الروس
كان الأوكرانيون يعملون لبعض الوقت على ضرب الخدمات اللوجستية لروسيا، بما فيها شبكة السكك الحديدية التي تعتمد عليها. منذ ذلك الحين، أبقى الروس مخازن الأسلحة خارج نطاق النيران الأوكرانية. ومع تسارع وتيرة المعركة، خلق ذلك معضلة للقادة الروس، إما نقل الذخيرة والإمدادات الأخرى إلى المقدمة عبر مسافات طويلة مع استهلاك الوقت والتعرض لخطر الاستهداف، وإما تخزينها قرب المقدمة فتكون عرضة للضربات المباشرة.
التحقق المحتمل للخيار الثاني يمكن رؤيته من خلال الضربة المذهلة لمستودع ذخيرة يحتوي قذائف وأنظمة صواريخ غراد متعددة الإطلاق في ماكيفكا بدونيتسك في 4 يوليو (تموز).
ورغم أن مثل هذه الضربات يحرم القوات الروسية من الذخيرة، فإن متطلبات المعركة تؤدي إلى الاستخدام المكثف لقطع المدفعية حتى تتآكل السبطانات، وتنفد القذائف، وتنكشف مواقع المدفعية بحيث تضرب الوحدات قبل أن تتمكن من الاختباء. تدعي أوكرانيا حالياً أنها تدمر نحو 30 قطعة مدفعية روسية يومياً.
 
بين التدمير والتحرير
مضى فريدمان كاتباً أن سكرتير مجلس الدفاع والأمن القومي الأوكراني أوليكسي دانيلوف غرد في 4 يوليو(تموز) قائلاً إن “المهمة الأولى” للقوات الأوكرانية هي “التدمير الأقصى للقوى البشرية والمعدات، ومستودعات الوقود، والمركبات العسكرية، ومراكز القيادة، والمدفعية، وقوات الدفاع الجوي للجيش الروسي. كانت الأيام الأخيرة مثمرة بشكل خاص. الآن تساوي حرب التدمير حرب الكيلومترات. المزيد مما يدمر يعني المزيد مما يحرر. كلما كان الأول أكثر فاعلية كان الأخير كذلك. نحن نتصرف بهدوء وحكمة وخطوة بخطوة».
بالتزامن مع ذلك، تعمل روسيا على القضاء على الأنظمة الأوكرانية، وأوكرانيا تعاني نقصاً في الذخيرة كما أعلن بشكل كبير. تم تراجع النقص في قذائف المدفعية عندما غيرت كوريا الجنوبية موقفها ووافقت على نقل كميات كبيرة من قذائف 155 ملم. ويبدو أن اليابان تحذو حذوها.
 
الأهم من ذلك حسب الكاتب، أن الولايات المتحدة وافقت على تصدير القنابل العنقودية التي يمكن إطلاقها من مدافع هاوتزر، أو هيمارس وهي تغطي مساحة واسعة، وهذه القنابل لن تساعد الأوكرانيين فقط على البقاء في “سباق المدفعية” لبضعة أشهر، لكنها ستوسع أيضاً خياراتهم التكتيكية، 
حيث يمكن استخدامها لضرب الخنادق الروسية أثناء إزالة الألغام. لكن في المقابل ستسبب الذخائر غير المنفجرة ضرراً للمدنيين لسنوات عدة بعد أن أصبحت هذه الأراضي ساحات قتال، رغم أنه سبق للجانبين استخدام نسخ سوفيتية قديمة من القنابل. لقد استخدمتها روسيا ضد المدنيين في أوكرانيا وهو ما لن تفعله الأخيرة بشكل واضح.
 
إلى الواجهة مجدداً
من النتائج المهمة لمعركة باخموت، الخلاف بين رئيس فاغنر يفغيني بريغوجين، ووزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو. من المستحيل القول إذا كان بالإمكان أن يصبح رجال بريغوجين، جزءاً من المجهود الحربي مرة أخرى بعد التمرد.
يبدو أن بعض كبار الشخصيات العسكرية المقربة من فاغنر خاصة الجنرال سيرغي سوروفكين، خضعوا للتهميش. لذلك إذا ضاعت باخموت بعد كل هذا الجهد ومع سيطرة القوات النظامية على المدينة، فسيكون ذلك محرجاً لبوتين. كما أن الدفاعات الروسية ليست متطورة هناك كما في الجنوب.
ولا يستبعد فريدمان أن يتمكن الجنود الأوكرانيون الذين يتحركون في المناطق المحيطة بباخموت من تطويقها في وقت لاحق. إذا تمكنت أوكرانيا من السيطرة على أرض كليشيفكا المرتفعة والمطلة على المدينة، فإن موقف الروس سيصبح غير مريح بشكل متزايد.
 
مثيرة للفضول
يبدو موقف الرئيس الروسي بعد التمرد أقل أماناً. لقد تحدى بريغوجين الأساس المنطقي للحرب وطريقة خوضها. بالإضافة إلى ذلك، إذا كان الهدف هو تخفيف حدة الهجوم الأوكراني حتى نفاد زخمه، حتى يبحث أنصار كييف الغربيين عن مخرج، فإن الاستراتيجية الروسية مثيرة للفضول. هي لا تقاتل وكأنها تحافظ على قوتها للمدى الطويل. بدل ذلك، هي تدفع بأكبر قدر ممكن من القوة في المعارك الحالية.
وأشار ميكولا فولوخوف، قائد وحدة استخبارات تيرا الأوكرانية، إلى أنه في حين كانت غالبية الاشتباكات تدور بين مشاة،  تستخدم الدبابات الآن بشكل أكبر. 
واعتبر ذلك “علامة جيدة لنا، لأنها تشير إلى أنهم لا يستطيعون التكيف ويحتاجون إلى سحب احتياطاتهم».
 
ما يمكن رصده حالياً
ختم فريدمان مقاله بالإشارة إلى أن هذه مرحلة حرجة من الحرب ويعتمد الكثير على ما سيحدث في الأسابيع المقبلة. حتى الآن، كان التقدم الأوكراني متواضعاً، ما يزيد بقليل عن 160 كيلومتراً مربعاً. بعض الوحدات قريبة الآن من خط الدفاع الرئيسي لروسيا، رغم أن معظمها ليس كذلك.
يمكن رصد دليل على ضعف التنسيق بين الوحدات الروسية وكيف أنها في كثير من الأحيان، ولكن ليس دائماً، تخسر في اشتباكات صغيرة، ولكن أيضاً على أن الدفاعات الروسية لما تتعثر بعد. لا تزال هذه معركة صعبة ومكلفة لأوكرانيا. فقط بعد الوصول إلى مرحلة الهجوم، سيتمكن المراقبون من قياس التقدم الأوكراني على الخريطة.