رئيس الدولة ونائباه يعزون خادم الحرمين بوفاة نوف بنت سعود وهيفاء بنت تركي
هدنة بلا ثقة.. واشنطن وبكين تتجنبان التصعيد «مؤقتاً» بانتظار قمة الزعيمين
قبل أيام من اللقاء المرتقب بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الصيني شي جين بينغ على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي (أبيك) في كوريا الجنوبية، نجح المفاوضون من الجانبين في صياغة “هدنة اقتصادية” مؤقتة تقي العلاقة المتوترة من انفجار جديد.
فبعد يومين من المفاوضات في كوالالمبور، أعلن وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت التوصل إلى اتفاق مع نائب رئيس الوزراء الصيني هي ليفينغ يقضي باستئناف بكين استيراد فول الصويا الأمريكي، وتأجيل تطبيق ضوابط تصدير المعادن النادرة لمدة عام كامل، وهي الورقة التي لوّحت بها الصين في الأسابيع الماضية كأداة ردع تجارية.
وبحسب صحيفة “آسيا تايمز” فإن الخطوة جاءت بعد أسابيع من التصعيد المتبادل؛ إذ هدد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على الواردات الصينية، ردًا على إعلان بكين نيتها تقييد صادرات المعادن النادرة الحيوية لصناعات التكنولوجيا والجيش الأمريكي.
لكن هذا التهديد، وفق بيسنت، منح واشنطن “ورقة ضغط فعّالة” أتاحت لها انتزاع تنازلات قبل القمة، دون الانزلاق إلى حرب تجارية شاملة.
وتشير أوساط دبلوماسية إلى أن إدارة ترامب تسعى إلى تحويل هذا التفاهم المؤقت إلى منصة حوار أوسع تشمل ملفات حساسة أخرى، من بينها مكافحة الفنتانيل، والملف التكنولوجي لشركة “تيك توك”، وحتى خطة السلام الأمريكية المقترحة لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
ورقة المعادن النادرة
خلال الأسابيع الماضية، حاولت بكين استخدام موقعها المهيمن في سوق المعادن النادرة، التي تُعد ضرورية لتصنيع الشرائح الدقيقة، والمغناطيسات، والمعدات العسكرية، كورقة ضغط على واشنطن.
غير أن تحليل الخبراء الصينيين أنفسهم يكشف أن هذه الورقة لم تعد بالفعالية التي كانت عليها في التسعينيات، حين كانت الصين تسيطر على أكثر من 70% من احتياطيات العالم.
اليوم، انخفضت هذه النسبة إلى نحو 35% فقط، في وقت تعمل فيه الولايات المتحدة وأستراليا وفيتنام والبرازيل على بناء سلاسل توريد بديلة.
وتشير البيانات إلى أن الصين نفسها أصبحت تعتمد على الواردات لتغطية قرابة 30% من احتياجاتها من خامات الأرض النادرة، وأن الولايات المتحدة، المفترض أنها الخصم، أصبحت في الواقع أكبر مورّد لتلك الخامات إلى السوق الصينية بنسبة 70% عام 2022.
ويرى المحلل الاقتصادي يي شينغ من شاندونغ أن “الرهان على المعادن النادرة كسلاح تفاوضي هو تفاؤل مفرط”، مضيفاً أن الصناعات الصينية، خصوصاً في مجالات السيارات الكهربائية والطاقة الجديدة، ستستهلك معظم الإنتاج المحلي خلال العقد المقبل.
وهذا يعني أن قدرة بكين على استخدام هذه المواد كورقة ضغط تتراجع أمام متطلبات نموها الصناعي الداخلي.
بل إن بعض الكتّاب الصينيين أشاروا إلى أن تشديد ضوابط التصدير أضرّ حتى بشركاء بكين مثل روسيا، التي تعتمد على سلاسل الإمداد الصينية في مشاريع التعدين والتكرير؛ فالقواعد الجديدة فرضت تدقيقاً إضافياً ورفعت تكاليف الامتثال للشركات الروسية؛ ما يعقّد طموحات موسكو في بناء صناعة معادن نادرة مستقلة.
بمعنى آخر، فإن “سلاح المعادن النادرة” الذي طالما رُوّج له في الإعلام الغربي بوصفه ورقة الصين الحاسمة، بدأ يتكشف كأداة محدودة التأثير في ظل التحولات العميقة في سلاسل الإنتاج والتجارة العالمية.
هدنة مؤقتة
ورغم التفاؤل النسبي الذي رافق تصريحات الوزير الأمريكي، فإن معظم المراقبين يرون في الاتفاق الحالي هدنة مؤقتة أكثر منه تحولاً استراتيجياً؛ فالمواجهة الجوهرية بين واشنطن وبكين لم تعد مقتصرة على الرسوم الجمركية أو الصادرات الزراعية، بل تمتد إلى مجالات التكنولوجيا المتقدمة، والذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات، وهي مجالات يشبّهها الخبراء بـ”الستار الحديدي الجديد” بين القوتين.
وفي هذا السياق، يمثل الاتفاق حول “تيك توك” إشارة رمزية مهمة، لكنه لا يبدد الشكوك المتبادلة حول مستقبل السيطرة التقنية؛ فبموجب التسوية، ستبيع الشركة الأم الصينية بايت دانس حصصها في العمليات الأمريكية لمستثمرين أمريكيين بقيادة أوراكل وسيلفر ليك، بينما تحتفظ بحصة أقلية وترخيص لإدارة الخوارزمية من داخل الصين. هذه الصيغة، رغم أنها تنزع فتيل أزمة سياسية، تؤكد في الوقت ذاته عمق انعدام الثقة بين الطرفين بشأن أمن البيانات والسيادة الرقمية.
ويشبّه المراقب الصيني وانغ شيمينغ العلاقة الحالية بين واشنطن وبكين بـ”لعبة جو” آسيوية تقليدية، حيث لا يكون الهدف فيها أسر القطع، بل السيطرة الهادئة على المساحات. فكل طرف يختبر الآخر دون اندفاع، بانتظار الفرصة لتوسيع نفوذه الاقتصادي والجيوسياسي.
يبدو أن ما تحقق بين واشنطن وبكين ليس اتفاقاً بقدر ما هو “تفاهم على تأجيل المواجهة”؛ فكل طرف أدرك أن الاستنزاف المتبادل في خضم تباطؤ الاقتصاد العالمي لم يعد في مصلحته.
واستخدمت الولايات المتحدة التهديدات الجمركية لتثبيت نفوذها التفاوضي، بينما وظّفت الصين التهدئة لتفادي انكماش صادراتها وتخفيف الضغط على عملتها.
لكن خلف هذا الهدوء الظاهري، تستمر المنافسة الشرسة على القيادة التكنولوجية للعالم؛ وستكون قمة ترامب وشي في كوريا اختباراً حقيقياً لما إذا كان الطرفان قادرين على ترجمة الهدنة المؤقتة إلى إطار استقرار دائم، أم أنها مجرد فصل جديد من لعبة التوازن بين ردع متبادل وحاجة اقتصادية مشتركة.
قد تكون الهدنة الهشة بين واشنطن وبكين مؤقتة، لكنها تبرهن أن الصراع بين القوتين لم يعد صفريا، بل خاضعا لمعادلة أكثر تعقيدا تقوم على توازن المصالح لا كسر الإرادة — مع بقاء الاقتصاد العالمي كله رهينة هذا التوازن الدقيق.