"وراء أكوام القش": صياد يتسبب في غرق أم وطفلها عند محاولة تهريبهما
من حكايةٍ سينمائية تكتبها عن صيّاد يوناني، تسبّب في غرق أمٍّ سورية وطفلها وموتهما عند محاولة تهريبهما عبر بحيرة تفصل اليونان عن مقدونيا الشمالية، تتّخذ اليونانية أسمينا برودرو (1982) حجة لفضح نفاق اجتماعي وفساد يطاولان دواخل الناس، وينتشران كوباء في وقت الأزمات، فيحيلانهم إلى كائنات عديمة الضمير، تقبل بالسكوت عن موت ضحايا أبرياء.
المشهد التالي لا صلة له بجثة المرأة، فهذا، وكل ما له علاقة بها، يُراد له النسيان، ومحوه من ذاكرة أهل القرية. لا يساير النصّ المخاتل إلى النهاية أكاذيبهم ولا نفاقهم، فيفضحها بالعودة إلى خلفياتها: الصياد وعائلته، في أشدّ لحظات تأزّمها، المتزامنة مع اتّساع موجة الهروب السوري من الجحيم إلى دول الشمال الأوروبي.
عام 2015، كانت قرية الصيادين هذه، كبقية قرى اليونان ومدنه، تعاني أزمة اقتصادية، وبطالة تنتشر بين سكّانها، تُصعّب عيشهم، كما تصعّب عيش الصياد سترجيوس، الذي زادت ديونه، وبات عاجزاً عن تسديدها في مواعيدها. توتره ينسحب سلباً على علاقته بابنته طالبة التمريض، الراغبة في التخلّص من ضغوطه، ومن الجو الخانق الذي تعيشه في المنزل، بينما تتهرّب الأم من مواجهتها بتقرّبها من الكنيسة، والمشاركة في جَمع الأموال والمساعدات لها.
التوصيفات العامة لشخصيات "وراء أكوام القش" غير ثابتة، كحياتهم المتغيّرة وفق الظروف التي تحدّد مساراتها اللاحقة. هذا أحد أفضال النصّ، الذي لا تفارقه سمة العمل الأول، الميّال غالباً إلى معالجة أكثر من موضوع إشكالي دفعة واحدة. لكنّ تميّزه الأهم عنها يكمن في رسم شخصياته، ومراقبة تحوّلاتها بوصفها كائنات حية لا يستقيم وضعها في قوالب جاهزة، ووصمها بأوصاف غير قابلة للتغيير. ما تريده منها صانعته المشاركة في عرض الحاصل فيها من تشوّه اجتماعي وأخلاقي، بفعل مؤثرات سياسية واقتصادية تشيع فساداً، وتجبر حتى الرافضين على الانخراط فيه بالتورّط به في نهاية المطاف.
لم يكن الصياد، رغم ضغوط صهره عليه، راغباً في المشاركة معه في عمليات تهريب المهاجرين إلى مقدونيا الشمالية، بقاربه الخشبي الصغير. لم يقبل المشاركة إلا بعد أنْ سُدّت أمامه كل الأبواب، وبات مُهدّداً بالسجن لعدم دفعه ما عليه من ديون. موقف الأم من موقف راعي الكنيسة من المهاجرين، الذي لا يُشجّع على مساعدتهم، فالكنيسة أولى بالمساعدة منهم، كما يخاطب رعاياه. المشهد العام للقرية يشي بموقفها غير المبالي بمحنة الغرباء الواصلين إليها، والراغبين في المضي منها إلى وجهة أخرى، توفّر لهم خلاصاً. مقابل هؤلاء، هناك من لا يقبل باستغلال حاجتهم، ولا بتعريض حياتهم للخطر.
بين الجهتين، وقفت الشابة أناستاسيا كأنّها كائن منفرد ومعزول بإرادته، لا يبالي بالعالم الخارجي إلا بمقدار مساسه بعالمه الداخلي. وصول المرضى السوريين سراً إلى المشفى، الذي تتدرّب فيه، يفتح عينيها على عالمٍ آخر، لم تفطن بوجوده من قبل. لكنْ، بتقرّبها من الشاب خريستوس (خريستوس كونتويورخيس)، صارت تدرك ما يعينه أنْ يُقاسم الإنسان ما عنده مع غيره من البشر، وأنْ يُعرّض نفسه للخطر، أو حتى الموت، من أجل قِيَم يؤمن بها، ويتبنّاها بعفوية ومن دون ادعاء، فيخيف بها خصوماً أنذالاً. ترى في مقتله على أيديهم موتاً لأخلاق قريتها، ونهاية تراجيدية لحبّها، وفي غرق الأم السورية وطفلها لعنة تحلّ على والدها، ولن تفارقه ولن تفارق القرية، التي تآمرت ضد الضحايا، وتظاهرت في يوم احتفالها كأنّ كل شيءٍ يسير بالإيقاع الهادئ نفسه الذي كانت تعيشه، قبل نقل الطفل خبر ظهور الجثة على ضفة البحيرة.
"وراء أكوام القش" مذهلٌ في أسلوب كتابته، التي تربط أحداثه ومسارات شخوصه الدرامية بتداخل مُعقّد بين أزمنته. فما كان ماضياً من الأحداث يصير حاضراً، بفعل لعبة السينما التي تجيدها المخرجة الشابة، وتزيدها أهمية مهارتها الكتابية المتّسعة لعرض رؤيتها النقدية لمجتمعها، وللتحوّلات التي يشهدها، بفعل تأثير الفساد السياسي والاجتماعي عليه، والتي تدفع الصياد إلى فعل الشر، بينما غيّرت شجاعة نساء من الكنيسة مواقف الأم، ودفعت ابنتها إلى الخروج من بيتها المُوحش، والسفر إلى مكان آخر أكثر رحمة من قريتها، التي يقارب وجودها السينمائي الخيالي واقعاً يونانياً مُصغّراً، لم يُنقل كثيراً من قبل بذاك الجمال والعمق اللذين نقلهما "وراء أكوام القش".