Asteroid City... نقد مبطن للتاريخ الأميركي الشعبي وسياسات حكوماته

Asteroid City... نقد مبطن للتاريخ الأميركي الشعبي وسياسات حكوماته

تنتظرنا الكثير من الألوان والمشاهد الممسرحة والديكورات السيمترية، مع كل عمل يحمل توقيع المخرج ويس أندرسون. لكن فيلمه الجديد Asteroid City لا يحقق تلك التوقعات المرئية والسردية فحسب، بل يؤكد سمعة المخرج الأميركي واحداً من بين قلة من صناع سينما المؤلف المعاصرين، ويعطينا لمحة عما يخفيه عقل المصمم الأكثر إذهالًا في السينما من صور غير مألوفة وحكايا لم ينبشها أحد من قبل.
 
عُرض Asteroid City لأول مرة في مهرجان كانّ السينمائي في دورته الـ76، وقد حقق نحو 45 مليون دولار في جميع أنحاء العالم منذ عرضه الأول، على الرغم من توقع فشله في شباك التذاكر نظرًا للجمهور المحدود الذي تجتذبه أفلام المخرج الأميركي.
 
بدأ أندرسون بكتابة سيناريو الفيلم إلى جانب رومان كوبولا عام 2020، وكانت تيلدا سوينتون أول ممثلة تنضم رسميًا إلى طاقم العمل بعدها بعام. تولى المصور السينمائي روبرت دي يومان عمليات التصوير في إسبانيا، حيث اجتمع الطاقم التمثيلي في دير قديم بدلًا من الفندق، محاطين بقواعد إجراءات الحظر الصحي من كل صوب، إذ تحدث أندرسون عن دور جائحة كوفيد-19 في صياغة الفيلم وقصته، حتى تسببها في استبعاد الممثل بيل موراي عقب إصابته بالفيروس بعدما كان واحدًا من طاقم الممثلين الرئيسيين. "ما كان الحجر الصحي جزءًا من القصة لو أننا لم نختبره بأنفسنا"، قال أندرسون، مضيفاً: "والكتابة هي الجزء الأكثر ارتجالية في العملية كلها، فهي تعتمد على وجود اللاشيء".
 
يفتتح الفيلم أول مشاهده بالأسود والأبيض على غرار برامج البث التلفزيوني القديمة. شاشة يتوسطها راوٍ/مضيف (براين كرانستون) وهو يدعونا لمتابعة صنع مسرحية على الخشبة، مؤلفها كونراد إيرب (إدوارد نورتون) وموضوعها هو "اللانهاية" خلال خمسينيات القرن الماضي أو ما يكافئها في مخيلة أندرسون الغزيرة. إذ يتجسد أمامنا تصور مستقبلي عن منتصف القرن الماضي، وذلك في بلدة أسترويد الصحراوية التي تحطم فيها نيزك منذ سنوات عدة وباتت موضعًا لمعسكرات الفضاء ومختبرًا للتجارب النووية على أطرافها. خلافًا لحفرة النيزك، في المدينة محطة وقود ومقهى وفندق ومرصد للنجوم.

أما زوارها، فهم متباعدون إلى حد يجعل من حضورهم في ذات البقعة الجغرافية حدثًا في حد ذاته، منهم مصور الحرب متلبد المشاعر أوغي ستينباك (جيسون شوارتزمان) وأولاده الذين يحملون رماد أمهم في علبة طعام بلاستيكية، باحثين عن مأوى أخير لها، إضافة إلى الممثلة ميدج كامبل (سكارلت جوهانسون) وفريق تصويرها ومجموعة من الأطفال العباقرة الذين يشاركون في مؤتمر Junior Stargazer لعالمي الفلك اليافعين وأولياء أمورهم.يكثر الحديث في المدينة/المسرح عن الفضاء الخارجي وكائناته، وتباغتها بين حين وأخرى سفينة فضائية تبدي اهتمامًا واضحًا بكويكب المدينة التاريخي. ينجح الفضائي ذو العنينين الواسعتين خلال ثاني نزلاته الأرضية في سرقة الكويكب، ما يدخل البلدة في وضع الحجر الصحي العسكري، ويدفع أطفالها للبحث عن طرق للتواصل مع الفضائي على الرغم من المحاولات الحكومية للتستّر على الحادثة أمام "العالم الخارجي".

تمزج القصة المؤلفة من شذارت متناثرة بين مغامرات الطفولة ومشاعرها المعقدة، منها الخجل وحب المنافسة، والعلاقات الأكثر تعقيدًا بين البالغين الذين تزدهر صداقاتهم وحبهم من خلال النوافذ الضيقة، إذ يكتفي ميدج وأوغي في التحديق ببعضهما من خلال نافذتي المقصورتين المخصصتين لهما، متشاركين نظرة سينقية للعالم وقناعة في كونهما "شخصين مصابين بجروح كارثية، لا يعبران عن عمق آلامهما لأنهما... لا يريدان ذلك". أما أولاد الثنائي، دينا وودرو، فيقعا في الحب أيضًا، بينما تُلقى اختراعاتهم في أيدي الحكومة الأميركية مجهولة المصير. يدفن الأطفال أمهم بجانب المرحاض، ويعيد الفضائي الكويكب الذي سرقه وسط ذهول البقية وجهلهم بغاياته وماهيته.

من بين تفسيرات كثيرة لهذه الموضوعة الغريبة وكذلك موقعها الجغرافي والجيولوجي، تبرز فكرة استعادة أندرسون للذاكرة الشعبية والأساطير حول الكائنات الفضائية والأجسام الغريبة التي يُعتقد أنها شوهدت في الصحراء الجنوبية الغربية في الولايات المتحدة على مقربة من مواقع التجارب النووية خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. إلا أن أندرسون يقارب تلك الأسطورة، ومن خلفها الحرب النووية، بذات حس الفكاهة الملتوي الذي نجده في فيلم ستانلي كوبريك الشهير Dr. Strangelove or: How I Learned to Stop Worrying and Love the Bomb (1964).

لعل "أسترويد سيتي" هو دعوة للبدء بالقلق من جديد، خاصة أنه يعكس نموذجًا مصغرًا للولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب والذعر الذي عم آنذاك خوفًا من الحكومة وممارساتها. لا يؤكد أندرسون أياً من تلك الافتراضات، لكنه يستوحي صوره من الإعلانات والصور التي قدمت المشهد الأميركي خلال الخمسينيات بشكل خالٍ من العاطفة ومفعم في ذات الوقت بالوطنية وقيم الحداثة.اشتغاله على التفاصيل البصرية الدقيقة وإعادة تخيله الزمن الماضي في تنويعات بصرية مذهلة يؤكدان أن أسترويد سيتي ليس فيلم خيال علمي فحسب، بل نقدًا مبطنًا للتاريخ الأميركي الشعبي وسياسات حكوماته على مدى الأعوام الفائتة. ما يبدو كئيبًا على الورق، يغدو في أفلام أندرسون وكأنه نزهة على الشاطئ أو رحلة إلى مدينة الملاهي، فيستعير في "أسترويد سيتي" المشهد المألوف لبلدة صغيرة في منطقة حدودية مهجورة، حيث السماء رمادية والعشب جاف، ويسكب فيها الحياة والزخرفات البصرية لتبدو بيتًا للدمى، كما توصف تشكيلاته البصرية دومًا، لكنه مع ذلك يحمي تعاستها العميقة، فلا يخرب أندرسون المعاناة في صوره، بل يغلفها بطبقات من اللون الزهري والأزرق الفاتح والأخضر والأصفر وغيرها من الألوان المرتبطة بالربيع، متعمدًا اختيار تدرجاتها الباهتة، أي ألوان الباستيل تحديدًا، حتى تعكس قوة الحزن الكامن، وكأن هذا الأخير هو النهر الجوفي لما فوقه ونواة ما نراه أمامنا.
 
قلَص البناء السردي للفيلم على هيئة منمنات يكمل بعضها الآخر من ظهور الممثلين على الشاشة ووزع الانتباه على عدد من الشخصيات بدلًا من أن يسند لإحداها وقتًا واهتمامًا فائضين. سرعة الإيقاع تلك والديناميكية في بنية الحبكة وتبادلات الممثلين يؤسسان لنهج تمثيلي لا ينسجم مع ما هو شائع، ما يفسر بقاء الفيلم خارج جوائز أوسكار عن فئة التمثيل تحديدًا، وهي نقطة تحسب لصالح صانع العمل الذي عرف بعمله الفريد على البنية الدرامية وتركيب الشخصيات ولو كان ذلك على حساب رواج فيلمه والتكريمات. إذ يقدم عدد من النجوم المعروفين أداءات خاطفة عبر الفيلم، بعضها لا يتجاوز الدقيقة الواحدة، ومنهم توم هانكس، وويليم دافو، وأدريان برودي، ومارغو روبي، وستيف كاريل، وتيلدا سوينتون، وفرانسس مكدورماند. ربما يتباهى أندرسون بقدرته على إقناع هذا العدد الهائل من الممثلين الكبار للعب أدوار في الخلفية، لكنه بالتأكيد يتقن بناء شخصياتهم رغم تواضع مساحتها، فلكل منهم إضافته الخاصة على سؤال الفيلم الأساسي: عم تدور المسرحية ومن خلفها الحياة أيضًا؟
 
تتشارك أفلام ويس أندرسون حمضًا نوويًا، يميزها عن غيرها ويبقيها متشابهة في ذات الوقت. من خلال اشتغاله على العلاقة الوثيقة بين النص والصورة، ابتعد كل البعد عن الكتابة الكسولة أو المشاهد الجاهزة، وظل ينبذ التعطش الزائد للـ"الفهم" في سينماه؛ محاربًا الأسلوب الشرحي و داعيًا المتلقي للمشاركة في عملية إنتاج الفيلم. إن أردنا المعنى من فيلم "أسترويد سيتي"، فعلينا أن نصنعه بأنفسنا.