Beetlejuice .. استدعاء العفريت الشقي إلى منزل الأشباح
عقب عرضه في حفل افتتاح الدورة 81 من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، انطلقت عروض الجزء الثاني لفيلم الرعب الكوميدي الأميركي الكلاسيكي Beetlejuice Beetlejuice، في الشرق الأوسط بالتزامن مع عرضه في صالات السينما الأميركية.
وكان المخرج تيم بارتون، صرح خلال المؤتمر الصحافي بالمهرجان، أنه لم يصنع الفيلم من أجل المال، ولكن لتجديد نشاطه وطاقته السينمائية، بعد أن كلفه الإحباط العام فترة توقف غير إبداعية، ففي العام الماضي حققت رقصة جينا أورتيجا في مسلسله Wednesday على شبكة نتفليكس تريند عالمي على منصات التواصل، وهي الشخصية المأخوذة من دراما الرعب الأميركية الشهيرة The Addams Family.ورغم أن بارتون، أعلن أنه لم يشاهد الفيلم الأصلي الذي قدمه عام 1988، وأصبح واحداً من أشهر أفلام سينما الرعب الكوميدي التي سيطرت على حقبة الثمانينيات، إلا أن ما يمكن اعتباره مجازاً الجزء الثاني من الفيلم يبدو أقرب إلى إعادة إنتاج للعمل الأصلي، صحيح أنه يتابع ما حدث مع عائلة "ديتز" بعد 36 عاماً من استدعاء العفريت الشقي إلى منزل الأشباح في بلدة وينتر ريفر، وصحيح أن بطلته هي المراهقة "ليديا"، التي صارت الآن من أشهر مقدمي برامج الرعب المبتذلة على شاشة الإعلام الرخيص، بعد أن استثمرت قدراتها في التعاطي مع الأشباح طوال حياتها، وتزوجت وأنجبت ابنتها المراهقة الجديدة "استريد".
صحيح أن كل هذا يبدو وكأنه استكمال بشكل ما لأحداث الجزء الأول، إلا أن التجربة في مجملها تحمل قدراً هائلاً من النوستالجيا، والارتباط العضوي والشعوري والبنائي مع الفيلم الأول بكل عناصره، والتي شكلت في زمن الثمانينيات الجميل طزاجة مسلية وطرافة أصيلة.
ويكفي أن نشير إلى أن الكثير من شخصيات الرعب الكوميدي، أو حتى الفانتازيا الكوميدية تأثرت بشخصية "بيتلجوس" المارقة، فمن السهل مثلاً أن نرى حجم تأثر صنّاع فيلم جيم كاري الخارق The Mask عام 1994، بشخصية العفريت الشقي الملقب بـ"عصير الخنفساء".
"بيتلجوس" العجوز
يبدو إيقاع الجزء الثاني أكثر بطئاً وأقل حيوية من الجزء الأول، كأن فارق العمر لم يطفو على وجه الشخصيات، ولكن على الإيقاع أيضاً.
يستغرق الفيلم وقتاً طويلاً في تأسيس الأزمة، وإعادة بناء العالم الذي سوف تنطلق منه مغامرة "بيتلجوس" مايكل كيتون الخرافي التالية، ربما بسبب إضافة عنصر زوجة بيتلجوس الأولى "ديلورس" مونيكا بيلوتشي، التي تعيد بناء جسدها عبر دباسة ضخمة، وتتحرك مثل حيوان شره لامتصاص أرواح كل من تقابلهم سعياً وراء بيتلجوس زوجها وقت أن كانوا أحياء قبل 600 عاماً.
لنكتشف أن العفريت الشقي لم يكن سوى آدمي يعمل في سرقة القبور في إيطاليا وقت الطاعون -في مقطع عبثي جداً نراه وهو يحكي قصة زواجه الأول وموته باللغة الإيطالية- وأن زوجته الأولى كانت السبب وراء موته الشيطاني؛ لأنها تنتمي إلى طائفة من ممتصي الأرواح.
فيما عدا هذا العنصر الجديد -مضاف إليه الشاب الشبح الذي يستدرج الابنة إلى العالم الآخر- يكاد يتطابق الجزئين الأول والثاني في مختلف السياقات الدرامية والبصرية، بل أن افتتاحية الفيلم نفسها التي تمر فيها عين الكاميرا محلقة فوق البلدة الأميركية التي تقع خارج نطاق المدن الحديثة هي نفسها من دون تغيير يذكر، حتى على مستوى شريط الصوت وموتيفات الموسيقى.
يبدأ الجزء الثاني مع إعلان موت تشارلز أبو "ليديا"، ورغبة زوجته الفنانة الحداثية المدعية أن تبيع البيت "منزل الأشباح"، بعد أن احتفظوا به طويلاً من أجل قيمته العاطفية والروحية بالنسبة للعائلة، منذ أن صادفت فيه "ليديا" شبح الزوجين الشابين اللذان توفيا في الجزء الأول وسكنا العلية.
من السماسرة إلى المؤثرين
لا يمكن اعتبار "بيتلجوس" في تجليه الأول أو نسخته الجديدة مجرد فيلم رعب مسلي فقط، فثمة مسحة نقد اجتماعي وسياسي واضحة النبرة، تعلن عن نفسها صراحة، سواء في الثمانينيات أو العشرية الثالثة للألفية.
في النسخة الأًولى، نجد الفيلم يركز على السخرية من مدعي الفنون الحديثة -زوجة "تشارلز" والد "ليديا" التي قدمتها كاثرين أوهارا ذات الطرافة الفاتنة- لنرى منحوتاتها العبيثة التي تشبه انتفاخات حجرية تافهة، لكنها تعاملها معاملة القطع الأثرية الخالدة.
وفي الفيلم الجديد، يستكمل نفس سخريته منها ومن أشباهها، خاصة مع تحولها إلى واحدة من عبيد ثقافة العصر الجديد أو الـnew age، فنراها وهي تحيط المنزل بوشاح أسود طويل من أعلاه لأسفله دلالة على الحزن، وتقرر شراء أفاعي مصرية، لكي تقيم طقس جنائزي فرعوني فوق قبر زوجها، مما يؤدي بها في النهاية إلى أن تُلدغ منهم، وتهبط للعالم الآخر رغماً عنها، رغم أن الكتالوج الخاص بهم يؤكد على أنهم منزوعي الأنياب.وفي مقابل سماسرة الرهونات العقارية الذين يريدون الحصول على المنزل في الثمانينات، استغلالاً لكونه بيت أشباح، وكيف يتخلص منهم "بيتلجوس" عندما يلجأ إليه الزوجين الشبحين و"ليديا" كي ينقذهم من طمع وشراهة رأس المال الذي يشم رائحة المكسب من أي عنصر تسويقي، حتى لو كان دم أو حادثة موت أو أشباح طيبة تسكن منزل بعيد.في مقابل هؤلاء السماسرة الذي يتخلص منهم "بيتلجوس" بعبثيته الطريفة، نجد المؤثرين أو الأنفلونسرز الذين يأتون جماعات لحضور زفاف طاردة الأشباح الشهيرة "ليديا ديتز"، وزوجها المستقبلي، المخرج التافه الذي لا يرغب سوى في الحصول على مزيد من الأموال من وراء برنامجها الشعبوي المبتذل عن الأشباح، ولكن حتى هؤلاء المؤثرين يستمرون في متابعة حفل الزفاف في الكنيسة مع ظهور "بيتلجوس"، مطالباً "ليديا" أن تفي بتعاقدها معه، في مقابل أن ينقذ ابنتها "استريد" من هبوطها الاضطراري إلى العالم الآخر.
وفي لمحة ساخرة ناقمة على عصر السوشيال ميديا، يقوم "بيتلجوس" بجعل التليفونات المحمولة تمتص وجوه المؤثرين صانعة منها نسخ مشوهة، تشبه الفلاتر السخيفة المنتشرة على مختلف التطبيقات، لتصبح آخر صورة لهم على هذه الهيئة المبقعة الملعونة، ثم يُمتص كل منهم إلى تليفونه فجأة، لتسقط التليفونات أرضاً، وهي تحمل على شاشاتها صور المؤثرين بوجوههم الشيطانية المشوهة. ولو أننا وضعنا سماسرة العقارات ومدعي الفن واتباع الثقافات السطحية المبتذلة ومؤثري السوشيال ميديا على خط واحد، سوف نجد أن صنّاع "بيتلجوس" ليسوا مجرد مهرجين يرتدون أقنعة كوميديا الجروتيسك أو الفانتازيا المرعبة، بل أن هناك ما يستحق القراءة خلف المربعات الأبيض والأسود، التي تمثل أرضية الممر المؤدي إلى العالم الآخر.
المراهقة والزيجة المستحيلة
قدمت وينونا رايدر، في النسخة الأولى دور المراهقة "ليديا" صاحبة الثقافة (القوطية) التي تملك القدرة على مشاهدة الأشباح، لأنها تصدق في الحياة، وتنظر لها بقلبها ومشاعرها، ولا تأخذها المظاهر مثل زوجة أبيها ومساعدها المدعي ذو البدلات الغريبة، وأبيها الطماع الذي يرغب في استغلال كون البيت مسكون ليبيعه بأعلى سعر.
وفي نسخة 2024، تعود المراهقة مرة أخرى، ولكنها فتاة برتون المفضلة في العام الأخير، جينا أورتيجا، التي قدمها معا العام الماضي مسلسل Wednesday.
لا تكاد ملامح الفتاتين عبر أكثر من 36 عاماً تختلف كثيراً، سواء "استريد" أو أمها التي كانت مراهقة في النسخة الأولى، نفس الانفصال عن واقع الأسرة السطحي والتافه والمبتذل، ونفس الرغبة في الهرب أو الانفلات من الشعور المستمر بأن الحياة لا شك هي في مكان آخر، وفي مقابل افتقاد الأم في النسخة الأولى، تفتقد "استريد" الأب في النسخة الجديدة، وهو ما يدفعها إلى قبول الخدعة التي تمارس عليها من قبل الشبح الشاب الذي يستدرجها للعالم الآخر بحجة لقاء أبيها الغائب، بينما يحاول أن يستبدل شبحيته بحياتها، ويتركها هي في الأسفل تواجه مصيرها العدمي.وفي واحد من أجمل مشاهد الفيلم نرى قطار الأرواح، والذي يظهر هنا لأول مرة، تهبط إليه عشرات الأجساد الراقصة، وهي ترتدي ملابس السبعينيات، وتضع إكسسوارات وملابس الشارلستون، رمز الحقبة الملونة الجميلة، مع خلفية موسيقى راقصة من موسيقى عام 1970، وكأن بارتون يكرم واحدة من أجمل الحقب في القرن العشرين بموسيقاها ورقصها وصخبها القزحي.وبينما تندفع أجساد الراقصين الذين يمثلون الأرواح الصاعدة إلى اللانهائية، تجد "استريد" نفسها في خضم طوفان من الاهتزازات والأيفوريا الجسدية الفائرة بالحركة والتلوي، لكن أمها تنقذها في اللحظة الأخيرة، قبل أن يغادر قطار الأرواح إلى أبدية النسيان.
أما الزيجة المستحيلة، فهي استكمال لرغبة "بيتلجوس"منذ النسخة الأولى الزواج من "ليديا"، رغم عمله بمطاردة زوجته الأولى له، والتي تحل محل دودة الرمال الضخمة في فيلم عام 1988، والتي قادتها الزوجة الشبحية "بربارا" لكي تبتلع "بيتلجوس" قبل أن يتم زفافه على "ليديا"، وينتقل إلى عالم الأحياء مرة أخرى.يطرح Beetlejuice، سؤال النوع بقوة على جمهور جديد، لم يعد الرعب الكوميدي من مفضلاته بنفس الدرجة التي كان عليها بالنسبة للآباء من جيل الثمانينيات، فهل الجمهور الذي وصل إلى الملحمية الإباحية لـ"ديدبول" يمكن أن يشد أنف انتباهه العفريت ذو العصارات الخضراء المقززة، والشعر العشبي المنكوش، والإفيهات النظيفة التي لا يشوبها التصريحات الجنسية المعلنة؟.
ربما يندفع الكثيرون إلى مشاهدة النسخة الأولى، أو استعادتها بشكل مضر، خاصة في المقارنة مع الفيلم الجديد، فهذا عمل كلاسيكي لا تزال الأجيال التي تربت عليه حاضرة الوعي والذاكرة، فهل سيطغى الحنين إلى الماضي على ثقافة التحديثات أم سيدهسه أقرب تريند؟، فلا يذر منه سوى الأقنعة التي شكلت جزءاً من طفولة جيل كامل من الأمريكان تربوا على عدم نطق اسم "بيتلجوس" 3 مرات كي لا يحضر بشيطانيته المحببة وفوضاه المبهجة.