منصور بن زايد: المتحف يعكس رؤية الإمارات نحو تعزيز الثقافة والسلام والتعايش
بنية درامية تحاكي واقع البيئات المنعزلة
Black Snow: نبش الحقائق عن تاريخ العبودية
في عام 2020، ادعى رئيس الوزراء الأسترالي السابق، سكوت موريسون، أنْ ليس لأستراليا تاريخ من العبودية. أشعلت تلك المزاعم حينها عاصفة من الانتقادات لموريسون، وأعادت نبش الحقائق عن تاريخ أستراليا الحقيقي، وعن علاقة الأجيال الجديدة بالندبة التي خلفها أسلافهم.
يركز Black Snow على سكان جزر بحر الجنوب الذين اختُطف أسلافهم من مواطنهم الأصلية للعمل قسرياً في حقول قصب السكر في أستراليا، بين منتصف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، متتبعاً حياة سكان الجزر المعاصرة في شمال كوينزلاند اليوم، وكيف تتشابك باستمرار مع تاريخ العنصرية المؤلم عبر لغز جرائمي يمتد لست حلقات.
تتنقل أحداث المسلسل بين عام 1994، حين يعثر على جثة الشابة إيزابيل بيكر (تاليجا بلاكمان ــ كوروا)، قبل تخرجها من المدرسة الثانوية بأيام قليلة، وعام 2019 الذي يكشف سبب وفاتها، وما تخفيه تلك البلدة الصغيرة من أسرار مشينة على يد المحقق الخارجي جيمس كورماك (ترافيس فيميل).
يجمع بين العامين كبسولة زمنية أنجزتها مدرسة آشفورد كمشروع طلابي، نُبشت في ذكرى افتتاحها المئوية، وفيها حفظت ملاحظات طلاب المدرسة حول حياتهم، وتوقعاتهم لما يمكن أن يغدوا عليه بعد مرور 25 عاماً. في الكبسولة، دليل يستدعي نفض الغبار عن قضية إيزابيل المعلقة منذ سنوات، ويشير إلى أن القاتل واحد من سكان البلدة ذاتها، وليس "مجرماً من خارجها"، كما زعمت الشرطة المحلية.
يتساقط الثلج الأسود مع بداية الحلقة الثانية، وهو الرماد الناتج من حرق قصب السكر، ومعه يهطل الماضي على الحاضر من جديد، إذ سرعان ما يتضح أن تاريخ أستراليا في العبودية يقبع خلف تلك الجريمة مباشرةً، فموت إيزابيل كان مرتبطاً بإصرارها على معرفة مصير شابين ملونَي البشرة، هاجرا إلى أستراليا للعمل بشكل "غير شرعي" في أوائل التسعينيات، ووقعا ضحية رجل عنصري يقود الشخصيات الثلاث إلى حتفها بطرق مختلفة.
لا يقدم Black Snow لمخرجيه سيان ديفيز وماثيو سافيل مساءلة تاريخية عن واقع العنصرية في أستراليا فحسب، بل يكاد يجزم بأن العبودية لم تنتهِ بعد، داخل كوينزلاند على الأقل؛ فما زال العمال "غير الشرعيين" يتعرضون لشتى أنواع الانتهاكات في مواقع عملهم وخارجها، على أيدي الأسياد المعاصرين في بلدة آشفورد، مثل ستيف، وهو مالك الطاحونة الغني الذي يحتجز جوازات سفر العاملين ويجبرهم على العمل بأجور زهيدة، ويتحرش بالعاملات الإناث منهن على مرأى من أعين الجميع، فيما يبيّض جرائمه تلك عبر تقديم خدمات عديدة للبلدة الفقيرة، كأن يقدّم للطلاب اليافعين منحاً دراسية، أو يتعاون مع قس الكنيسة، وهو والد الضحية إيزابيل، لحل أزمة البطالة المتفشية، وبحجتها يبني ستيف جيشاً من المتطرفين والفاشيين مثل بيلي، الشاب المدمن العاطل من العمل، وغيره من سكان البلدة المضطربين المؤمنين بتفوق العرق الأبيض، يرتكبون جرائمه بالنيابة عنه، ويعاقبون عليها وحدهم أيضاً، كما في حالة قاتل إيزابيل.
أما الشرطة المحلية التي تبدي استياءً واضحاً من إعادة فتح قضية إيزابيل لأسباب تتعلق بالفساد، فلا تجتهد إلا لإقناع فتاة صغيرة بإزالة طلاء الاحتجاجات الأحمر عن تمثال نُصب في وسط المدينة لجيمس آشفورد، وهو مؤسس البلدة الخيالية الذي يحتفي به الجميع، على الرغم من مشاركته في استحضار العمال إلى المنشآت الزراعية في كوينزلاند خلال القرن التاسع عشر.
خلافاً لألغاز الجريمة التي تجتهد في بناء المفاجأة على حساب الحبكة المتقنة والمنطق أحياناً، وتسعى لتقديم وابل من الأجوبة غير الضرورية، يتقدم Black Snow ببطء شديد، غير آبه لمتطلبات نوع الإثارة، معرفاً بالشخصيات ودوافعها من قرب. بعضها يظل عصياً على الفهم، كما في حالة المحقق كورماك، الذي يحافظ صناع المسلسل على غموض قصته حتى النهاية، من دون ترك فجوات في المعنى. نعلم أنه ينحدر من أسرة معنفة، وأن خلفه قصة تدفعه إلى أذية نفسه، وحرق صدره بمقبس ولاعة السيارة، لكن لا حاجة لنا أكثر من تلك التموجات الهادئة في نسيج القصة المنسابة بسلاسة، حتى نعرف أن شيئاً ما يجري بعيداً عن الأعين، ويلعب دوراً أكبر مما نتخيل في تسيير الأحداث.
ما نراه هو قمة الجبل الجليدي فقط، وأسفله، تحت المياه الراكدة، تقبع الدوافع والصراعات غير المعلنة، منها ما هو يومي، يتمثل بكفاح عائلة إيزابيل المستمر للتأقلم مع مقتل ابنتهم، وأخرى نفسية، تبحث في دوافع القتل والشعور بالذنب وفي تساؤلات اليافعين عن الموت المباغت، فضلاً عن صراعات الجيل الأصغر المتمثل بشقيقة إيزابيل الصغرى، هايزل (جيمسون باور) مع العائلة المتدينة والابنة المتمردة كالانا والالتزام السياسي والأخلاقي في زمن تصعب فيه تلك المهمة أكثر وأكثر.
يخدم سرد القصة غير الخطي مراقبة ازدهار الشخصيات أو اضمحلالها عبر الزمن، وأثر الجريمة المرتكبة عليها، إضافة إلى العلاقة المتبادلة، والمرهقة في غالب الأحيان، بينها وبين تاريخها العرقي والبيئة المحيطة بها، إذ يضع العمل أمامنا بحثاً سوسيولوجياً، حول جزر بحر الجنوب التي يندر، إن لم ينعدم، حضورها الفعال عبر الدراما المعاصرة.
أما موضوعة الجزيرة، المكان النائي، والعلاقة بين عزلة الغابات والعقل الإجرامي، فهي موضوعة ألفتها دراما ألغاز الجريمة جيداً. المختلف في Black Snow أنه يصنع عبرها بنية درامية تحاكي واقع البيئات المنعزلة، فيها فضاء مغلق يتفعل بدخول الآخر، وهو الجحيم الحقيقي في حالة سكان البلدة المنغلقة التي بنت افتراضاتها عن الآخرين، وأغلقت أبوابها في وجوههم منذ زمن بعيد.
لا يحضر الغريب في آشفورد إلا عاملاً مضطهداً، رجلاً أبيض مضطهداً، أو عابر سبيل يبحث عن فرصة لاستغلال سكانها. لذات الأسباب تُقاطع رحلة إيزابيل وصديقتها إلى خارج البلدة بشكل مؤلم قبيل وفاتها، إذ تمتنع الشابة عن السفر إلى الخارج خوفاً مما يقبع خلف أسوار بلدتها الضيقة، وتحارب عائلتها علاقتها بالشاب الأبيض، أنطون، خوفاً من انفكاكها عن التزامها نحو عائلتها وقضايا عرقها. أما الخوف الأكبر، فهو من محقق غريب يودي بأمن البلدة واستقرارها، كورماك القادم من خارج البلدة، يجابه هو الآخر بالرفض من قبل سكانها، لكنه ينجح أخيراً في اختراق نسيجها المتماسك ويحل اللغز الذي أربك البلدة لسنوات عديدة.
يضع Black Snow أمامنا نموذجاً معاصراً عن قدرة أعمال الإثارة على أن تغدو موضوعات أكثر جدية وحيوية، تناظر السياسة وتغلّط السياسيين، وتدرس الجريمة في سياقها الاجتماعي والتاريخي والاقتصادي، وتحيدها عن مسارها المعتاد في اللهث وراء اللغز، وإن أودى بالمعنى.