محمد بن راشد: نسعى لتوفير أفضل نوعيات الحياة للمواطن والمقيم والزائر
فائز بجائزة "الدبّ الفضي لأفضل مساهمة فنية"
(Des Teufels Bad): التصوير سردٌ بصريّ أجمل وأهمّ من كل كلامٍ ولقطة وتفصيل
أحد الأوصاف الممنوحة لـ"حمّام الشيطان (Des Teufels Bad)"، للنمساويَّين فيرونيكا فرانتز وسِفِرن فيالا، يقول إنّه "فيلم رعب ودراما"، وإنّه إنتاج نمساوي ـ ألماني مشترك (ويكيبيديا الإنكليزية). مُشاهدته تُلغي صفة رعب لمصلحة دراما، رغم أنّ مَشاهد عدّة فيه تعكس مناخاً يُثير رعباً، بالمعنى السينمائي التقليدي العادي (ربما)، المتعارف عليه، لكنّ الرعب غير متمكّن من إحكام سيطرته، مع أنّ تصويراً لحالاتٍ مختلفة تُثير شيئاً من رعبٍ (لعلّه قرف وغضب وقهر، أكثر منه رعباً) إزاء عنفٍ كامنٍ في نفسٍ وروحٍ بشريّين، قبل خروجه إلى العلن، بكلّ ما فيه من وحشية ودموية.
مداخل عدّة مُفيدةٌ في معاينة "حمّام الشيطان"، الفائز بجائزة "الدبّ الفضي لأفضل مساهمة فنية"، ينالها مارتن غيشْلاغْت، مدير التصوير، في المسابقة الرسمية للدورة 74 (15 ـ 25 فبراير/شباط 2024) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)". مداخل يُمكن استخدامها، أو استخدام أحدها على الأقل، لولوج عالمٍ مليءٍ بالعنف والقسوة والتسلّط والبطش، وإنْ يظهر هذا كلّه مباشرة أحياناً، ومُبطّناً أحياناً أخرى. والمبطّن جوهر سينمائي، درامياً وفنياً وجمالياً، يُمهِّد، أو بالأحرى يحتاج لاحقاً إلى المُباشر، ليكتمل المشهد.
مشهد العرس يجمع أناساً، سيكونون هم ـ هنّ أنفسهم في مشهد الإعدام (الخاتمة). التحوّل من فرحِ عرسٍ بين حبيبين إلى نشوةٍ، تقترب من الرعشة، في اللاحق على إعدام أغنس (آنيا بْلاغْ)، وبـ"فضل" هذا الإعدام، مخيفٌ لشدّة وحشيّته الواقعية، وجماليته السينمائية، ودلالاته المخبّأة فيه: الوحش كامنٌ في الفرد والجماعة، والأخيرة سببٌ أصيل في تغذية العنف في الفرد. احتساء الخمر في حفل العرس، بعد لحظات على بداية "حمّام الشيطان" (في اللحظات تلك تأسيسٌ للاّحق الذي يبلغ، في النهاية، ذروة الوحشية الفردية ـ الجماعية)، يُصبح احتساءً لدم المقتولة إعداماً بقطع رأسها (أغنس)، لأنّها رافضةٌ حياة بائسة، عنفها (أي عنف الحياة البائسة) لن يكون أقلّ حدّة وقسوة وخراباً من كلّ عنفٍ آخر.
ألن يكون في هذا التحوّل، من احتساء خمرٍ (لعلّه النبيذ؟) إلى احتساء الدم، إسقاطاً دينياً يُحيل، ضمناً، إلى ثنائية الدم ـ الخمر في الرواية المسيحية؟ "اشربوا منها (كأس الخمر) كلّكم، لأنّ هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يُسفَك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا" (متى 26: 26 ـ 28)؟ أيكون احتساء الدم، في ختام "حمّام الشيطان"، إنهاءً لمرحلة، وتحضيراً لحالة أخرى، أي لحياة ـ عهدٍ جديد؟ أينبثق الخلاص من دمٍ، أي من قتلٍ وعنفٍ، كي يكتمل (الخلاص)؟ أمْ أنّ التحوّل في "حمّام الشيطان" غير مرتبطٍ بأي إسقاطٍ ديني، ربما يكون (الإسقاط) أخلاقياً أيضاً، لاكتفائه بتعرية فرد ـ جماعة، وفضح حجم العنف المولود فيه ـ فيها منذ ما قبل تكوّن الجنين في رحم الأم ـ المرأة؟ والمرأة، "الممنوع عليها" أنْ تكون أمّاً في "حمّام الشيطان"، ألنْ تختار العنف (قتل مراهقين ـ مراهقات) درباً إلى خلاصٍ منشود عبر الجماعة وقوانينها، بعد فشلها الفرديّ في إنهاء حياتها (محاولة انتحار)، رحمةً بها، وخلاصاً لها من جحيم الأرض؟
أتكون أغنس مسيحاً آخر، يمنح الجماعة دمه لخلاصٍ من بؤسٍ وقهرٍ وعذابٍ، وكثيرون ـ كثيرات في الجماعة غير منتبهين وغير مدركين وغير آبهين، والخلاص يأتي مصادفةً، وإنْ يحصل عليه قليلون ـ قليلات؟ لا حاجة نقدية إلى تحليل أكثر من هذا. لكنّ "حمّام الشيطان"، المستند إلى وقائع حاصلة في "النمسا العليا" عام 1750، يُحرِّض، ثقافياً وتأمّلياً وانفعالياً، على تفكير ـ تحليل كهذا، من دون تجاوز مسألتين فيه: وقائع تُروى، وبحثٌ في كيفية صُنع العنف في ذات فردية، وإنْ بشكلٍ غير مباشر. أغنس نفسها لن تكون الأولى أو الوحيدة، ففي المشهد الافتتاحي، امرأةٌ "تخطف" رضيعاً يبكي، وترميه في منحدر شاهقٍ، ثم تذهب سيراً على قدميها إلى قلعةٍ، تُشبه ديراً، وتعترف بارتكابها جريمة قتل، فتُعدم بقطع رأسها.
المرأة نفسها تُصبح "شاهداً" على واقع، يتمثّل (الشاهد) بـ"مزارٍ" يتضمّن جسدها جالساً على كرسيّ، ورأسها المقطوعة واقعةٌ على الأرض قربها، وتفاصيل عنفية أخرى حاصلةٌ فيها. تعثر أغنس على الـ"مزار"، مصادفةً ربما (إيحاء سينمائيّ رائع)، فتعثر، في الوقت نفسه، على خلاصها المتأخّر وقتاً غير كثير، من دون أنْ توحي بذلك (إيحاء سينمائي رائع، أيضاً). مُصاب أغنس متمثّل بعجز ـ رفض زوجها وولف (دافيد شايد) مضاجعتها. هذا أوّل مُصابٍ تشعر به. بل هذا تأسيس فعلي لخرابٍ، تكتشفه أغنس تدريجياً. والعجز أكثر طغياناً من الرفض، فالرفض ربما يكون غطاءً لعجز الرجل في مجتمع ذكوري خانق، يصنع انفصالاً، ويُعرّي فرداً، ويكشف سوء حياةٍ في بيئة ضاغطة، بعض نسائها (الأم مثلاً، ووالدة وولف تحديداً) مساهمٌ فعليّ ومباشر في تفشّيه (العنف، سوء الحياة، إلخ).
طغيان الحكاية لن يحول دون تنبّهٍ إلى جماليات فنّ وتقنيات. تصوير الطبيعة والجماعة لن يمنع تصوير فردٍ وانهياراته وخرابه واهترائه. تصوير الفرد يتجاوز الحرفية المهنية إلى إبداعٍ، يرتكز على مفردات عِلْميِ النفس والاجتماع، والفكر والتاريخ أيضاً. فالتصوير يخترق موانع، ويعتمد الرماديّ، غالباً (وليلٌ يسيطر على كلّ شيءٍ وكل أحد، مع نور خفيف منبثق من شمعة ما، أحياناً)، وينبش أهوال ذات بشرية، مخبّأة في زوايا عدّة منها.
فالتصوير سردٌ بصريّ أجمل وأهمّ من كل كلامٍ ولقطة وتفصيل، وهذا كافٍ، رغم تفاصيل جمّة تصنع فيلماً، يتوغّل في نفسٍ وروحٍ، أولاً وأساساً.