عبدالله بن زايد يستقبل نائب رئيس مجلس الوزراء وزير خارجية تركمانستان
تجريبٌ جديد بمفاهيم وعناصر وبيئة جديدة للمخرج الياباني ريوسوكي هاماغوتشي
Evil Does Not Exist.. يجمع بين لقطات الطبيعة الساحرة والمرعبة في آن وخليط موسيقى الجاز الصاخبة
"جَرِّب ثانية، افشَل ثانية، افشَل بشكل أفضل" (صامويل بيكيت).الاقتباس أعلاه يعتبره المخرج الياباني ريوسوكي هاماغوتشي (46 عاماً)، منهجاً لحياته السينمائية. تخرج هاماغوتشي من قسم الآداب في جامعة طوكيو، ولاحقاً أكمل دراسته العليا متخصصاً في السينما. بين فيلمٍ وآخر، يسيّر ورشاً للتمثيل الارتجالي. المحطات الثلاث السابقة رئيسية في سياق مخرج يصنف بأنه أوزو السينما الحديثة، فمن المستحيل فصل دراسته للأدب ولاحقاً للسينما وورش التمثيل الارتجالي (السيناريو والصورة وإدارة الممثل)، عن سياق نتاجه السينمائي.
الكتابة هنا تتناول فيلمه الأخير Evil Does Not Exist الحاصل على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان فينيسيا. وكان قد أسال كثيراً من الحبر ولا يزال. لكن قراءته خارج سياق فيلموغرافية ريوسوكي هاماغوتشي ستكون مجحفة ومنتقصة من سيرة المخرج الممسوس بالسينما. إذا تخيلنا هاماغوتشي بستانياً ويملك أصيصاً ليزرع فيه زهوراً، وكل زهرة/ فيلم تفتحت في هذا الأصيص لها جذور متشابكة (زمانياً ومكانياً؛ عناصر الحكاية وشخوصها)، مع أزهارٍ أخرى. حينها، سنجد Evil Does Not Exist في أصيصٍ آخر، ووحده حتى الآن، بعدما امتلأ الأصيص الأول. مع العلم أن ريوسوكي هاماغوتشي لم يبتلع إرثه السينمائي ولم ينقلب عليه، فقط تجريبٌ جديد بمفاهيم وعناصر وبيئة جديدة.
في فيلمه Intimacies (2012) نجد جذوراً لفيلمه الحاصل على جائزة السيناريو في مهرجان كان السينمائي، وجائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم أجنبي Drive My Car (2021)، وذلك على أساس قصة التحضير لمسرحية داخل الفيلم (قصة داخل قصة)، والتداخل في حياة القائمين على المسرحية. من ناحية أخرى، يتقاطع Drive My Car مع فيلم Wheel Of Fortune And Fantasy الصادر في العام نفسه من حيث الأحاديث الحميمية في السيارة (إذا كنت وافداً جديداً إلى أعمال هاماغوتشي، فإن فيلم "عجلة الحظ والخيال" هو المدخل المناسب).
نتابع ميكو وتسوجومي في Wheel Of Fortune And Fantasy وهما في سيارة أجرة تتجول إلى الأبد. المحادثة الحميمية ترسم لنا معالم الشخصيتين، ونغوص في أغوارهما كلما أنصتنا أكثر. هذا ما رأيناه أيضاً داخل السيارة الحمراء في Drive My Car: المحادثة تدور بين هاماغوتشي والكاتب هاروكي موراكامي (الفيلم مبني على إحدى قصصه)، وأنطون تشيخوف (المسرحية في الفيلم هي مسرحية العم فانيا لتشيخوف)، على لسان بطل الفيلم كافوكو بعدما فقد شهرزاد الساحرة (زوجته أوتو).
السيارة بوصفها غرفة منزل متنقلة، تمثّل جزءاً من اهتمام ريوسوكي هاماغوتشي بالنقل العام كعنصر سينمائي. الجميع يجد عزاءه في النقل العام. كل الرفاهية والعواطف والعلاقات والمشاكل الشخصية تتضاءل أمام شبكة الطرق المعقدة في اليابان، فيجد الإنسان فيها مساحة للتأمل.
على أثر زلزال شرق اليابان الكبير عام 2011، وثلاثية Tôhoku الوثائقية عن ضحاياه، أتى فيلم Happy Hour (إصدار عام 2015، زمن العرض 317 دقيقة)، مرتكزاً على الممثلين غير المحترفين (كانوا مشاركين سابقين في ورش هاماغوتشي). يتشابه من ناحية إجراء مقابلات مرتجلة مع ضحايا الكوارث، وتمديد المحادثة إلى ما هو أبعد من الفترات التقليدية للتأكيد على التجربة العاطفية والكشف عن خبايا النفس من خلال الحوارات التي تنحرف في اتجاهات غير متوقعة بين الأشخاص المترابطين، تضاف إلى ذلك العائلات وزملاء العمل والمواقف اليومية وغيرها من أركان حياة الطبقة المتوسطة اليابانية المعاصرة.
بعد جائزة الأوسكار والتكريس العالمي للمخرج، دخل إلى الحلقة الضيقة لصانعي الأفلام في بلاده، كأكيرا كوروساوا وياسوجيرو أوزو وكينجي ميزوغوتشي. المساحة المادية الرحبة للتجريب خلقت عمله الجديد Evil Does Not Exist. انطلق العمل من اللحظة التي طلبت إيكو إيشيباشي (مؤلفة موسيقية، ألفت موسيقى فيلم Drive My Car)، من ريوسوكي هاماغوتشي أن يصمم عرضاً بصرياً مرافقاً لموسيقاها. في السنة الأولى من العمل كان هاماغوتشي في حالة ضياع، هو خارج مساحته الآمنة. انتقل إلى المنزل الريفي الذي تقيم فيه إيكو وبدأ بتدوين المصطلحات التي أتت على لسان السكان المحليين، ومنها نسج السيناريو الميناميلي الذي شاهدناه في العمل.
التوصية الوحيدة من المخرج لمدير التصوير يوشيو كيتاجاوا أن يكون تكوين اللقطة مُغرقاً في اليابانية. خطوط كثيفة متقاطعة في الأفق. ساعات طويلة من التصوير الهادئ وضعت على طاولة المونتيرة أزوسا يامازاكي، وهذه كانت المهمة الأصعب. تحت تأثير فيلم المخرج السويدي إنغمار بيرغمان The Virgin Spring (1960)، خرج الفيلم بصورة تُحيط بالموسيقى التي تتردد في تلك الطبيعة، حافظت الصورة على مسافة من الألحان، تداخلت أحياناً وتناقضت في أحيان أخرى. هذا التداخل مؤطر سينمائياً في مشهد ريشة الطائر والهاربسيكورد.
للجميع أدوار حيوية وإيجابية في العمل، طاقم التمثيل والكُتاب وطاقم التصوير والعاملون على الموسيقى. كلّهم باستثناء المخرج، كان حسب قوله، يقف مراقباً سلبياً للعملية بأكملها، يجهل النتيجة النهائية، مؤكداً من جديد التباس مهنته كمخرج. العمل الذي يجمع بين لقطات الطبيعة الساحرة والمرعبة في آن وخليط موسيقى الجاز الصاخبة والاستخدام المكثف للميلوديكا والفيبرافون قد لا تُهضم تجربة مشاهدته إذا لم ننصت ونحن نتلصص على المشهد (كما كل تاريخ السينما)، حتى نراه من وجهة نظر المخرج/ المتلصص.