عبدالله بن زايد يستقبل نائب رئيس مجلس الوزراء وزير خارجية تركمانستان
صدمة على مستوى الحكاية و الشخصية
joker 2: هل هزم الجوكر أمام سلطة المجتمع والقانون
في واحدة من أهم لقطات الجزء الأول من فيلم Joker للمخرج تود فيليبس، وبطولة خواكين فينيكس، عام 2019، شاهدنا "آرثر فيلك" في بذلة الجوكر الحمراء ووجه الملون، وهو يرقص هابطاً "السلالم النيويوركية" الطويلة، التي صارت فيما بعد واحدة من أشهر المزارات السياحية في المدينة، عقب فوز الجزء الأول بـ120 جائزة، منها اثنتين من جوائز الأوسكار.
كان المشهد الأيقوني يُعبر عن لحظة انتصار خارقة بالنسبة لآرثر، الذي وجد في قوة الجوكر واندفاعه وتكريس طاقات الضحك اللاإرادي الذي بداخله مسكناً رائعاً لألم عقد الطفولة السوداء، بل وربما علاج لكل ما أرقه طويلاً، وكسر جناحيه اللذان أراد أن يحلق بهما بعيداً عن صوت أمه الرفيع، وهي تسخر منه، أو تبكي جراء ضرب حبيبها لها.
أما في Joker: Folie à Deux، وتحديداً قرب النهاية بمشاهد قليلة، حين يهرب آرثر إثر التفجير الذي أطاح بجدران المحاكمة الهشة والهزلية -نفسياً وفنياً- وهي القاعة التي شهدت جلسات مواجهته بجرائم الجزء الأول، حيث قتل 3 متنمرين في مترو الأنفاق، وذبح زميله في العمل، وأخيراً قتل المذيع المعروف فرانكلين –روبروت دي نيرو- على الهواء أمام ملايين من مشاهدي التلفزيون، في أثناء استضافته.
نقول إنه عقب الهرب الذي ساعده فيه الانفجار، والذي أقدم عليه واحد من المتأثرين بفلسفة الجوكر الانتقامية، من قدسية نظام المجتمع الفاسد القائم على احترام الغني والقوي والمشهور، بغض النظر عن دمامتهم الداخلية أو قبح هيئتهم الأخلاقية.
يذهب آرثر، وقد فقد الكثير من ألوان الجوكر على وجهه إلى سارية العلم الذي سبق وأن رفرف عليه انتصار؛ السلم الطويل المصاحب لرقصته الأيقونية، وهناك يصعد بسرعة حتى تتقطع أنفاسه حين تقع عيناه على حبيبته المهووسة (لي أو ليزا) بفوضاه الخلاقة، لكن شتان ما بين النزول منتشياً برقصة الانتصار الذهبية في الجزء الأول، والصعود منهكاً بأنفاس الهزيمة الممزقة، وجسد الرجل المنتهك إثر اعترافه بأنه مجرد قاتل خائب أراد أن يعود شعوره بحقد على كل من آذاه، سواء في طفولته أو شبابه أو كهولته المتغضنة.
معاً في الجنون!
يحمل الفيلم عنوان جانبي بالعربية وهو "معاً في الجنون"، ولكن أي جنون هذا الذي يدعي الفيلم أنه يقدمه! أو هل الجنون الذي حاول السيناريو تقديمه هو حقاً جنون يليق بزعيم مجانين القصص المصورة صاحب الابتسامة المعتمدة كـماركة مسجلة لكل ما هو مارق وعبثي وعنيف أم هو جنون على طريقة لا لا لاند!.
على ما يبدو أن المخرج تود فيليبس، حاول أن يقدم هذه المرة نسخته الخاصة من الفيلم الغنائي الاستعراضي الأشهر في العشرية الأخيرة، بعدما قدم نسخته الخاصة من شخصية الجوكر قبل 5 سنوات، حتى إنه قدم تحية لأغاني موسيقى وأفلام الخمسينيات الهوليوودية الشهيرة، ومن بين كل الأفلام التي كان من الممكن أن يشاهدها آرثر وليي في لقائهم الحاد الأول عندما أشعلت "لي" النيران في قاعة العرض الخاصة بمصحة "آركام" حيث تحل هي وآرثر كمريضيين نفسيين، أحدهما مسجون والأخرى طواعية، يختار فيليبس مشهداً من فيلم شهير لواحد من كبار راقصي هوليوود في القرن العشرين فريد أستير.
لقد أحضر المخرج الجوكر، ووضعه في عالم لالا لاند، فلم يعد هو نفسه الجوكر الذي نعرفه أو حتى نعيد اكتشافه، ولم نصل معه في فورة الغناء وذروة علاقة الحب السيكوباتية بينه وبين "لي" إلى فضاء لا لاند المرصع بالنجوم وأحلام الشهرة والمجد والتحقق. فربما جاءت "لي" و"آرثر" معاً بالفعل، ولكن لا في الرقص ولا في الجنون، بل في المنتصف ما بين الغناء والدم.
ابتسامة من زجاج
في مشهد زيارة "لي" لآرثر عندما غادرت المصحة، قبل أن يكتشف أنها كانت موجودة بداخلها طواعية من أجل أن تتقرب منه حباً فيه، ورغبة في أن تمنحه نفسها، وتناله شرف محبته، كملك متوج على عرش الرفض والدمار، ترسم "لي" ابتسامة بأحمر الشفاه على الزجاج العازل بينها وبين "آرثر" في قاعة الزيارة، ويتحرك هو لكي تندمج ابتسامته "الجوكرية" على اللون الأحمر المرسوم، وكأن "لي" صنعت له الابتسامة لكي يستعيد وجهه الحقيقي، وجه الجوكر الذي يخبئ كل الرعب خلف ابتسامته المعلقة دائماً.
هذا المشهد يضعنا أمام تأويل وإشارة، التأويل مرتبط بالفرضية الأساسية في الفيلم، وهي هزيمة الجوكر أمام سلطة المجتمع والقانون، واعترافه بالقتل كأي مجرم عادي اسمه آرثر فليك، وما تبع هذا من انسحاب "لي" من المحكمة بعد أن صدمها الاعتراف وهي التي كانت تريد أن تبني معه جبلاً كما كانت تقول أغنيتهم المشتركة التي أعلنت فيها اقترانها الكامل بالحلم التدميري العظيم الذي ترمز إليه شخصية الجوكر.
لقد رسمت له ابتسامة على الزجاج لكي تضعه في الإطار الذي تريده، تماماً كل المريدين والمحبين والداعمين لأفعاله العنيفة وقتله لكل من تسبب في أذاه نفسياً وجسدياً، لقد أصبح الجوكر قديس الفوضى التي يستحقها عالم غير منصف، وغير أمين على هشاشة البشر ومتطلبات الإنسانية.
وحين يعترف أنه مجرد مجرم عادي، فإنه بذلك يعمل على أن تتبخر هالته الحمراء التي تكسو وجهه الملون أو بمعنى أدق، يمحو الابتسامة التي رسمتها "لي" على زجاج قاعة الزيارة.
هذا من ناحية التأويل، أما من ناحية الإشارة النقدية، فإن الفيلم كله يشبه هذا المشهد في ركاكة بناء العلاقة بين "لي" و"آرثر"، هذا فيلم أقرب لابتسامة زجاجية من دون روح ولا انعكاس، باردة كلون باهت على سطح أملس، لن يلبس إلا أن يزول أو يذوب.
لا ندري لماذا قرر فيليبس أن تكون العلاقة بين "آرثر" و"لي" مبنية على هذا الكم من الأغنيات الكلاسيكية والحديثة والرقصات المستوحاة من حقبة الفيلم الاستعراضي الهوليودية!.
على مستوى البناء النفسي للجوكر ورغم رقصته الشهيرة، لكننا نكاد لا نجد أي صلة بحكم استغراقنا في دواخله بين خيالاته الغنائية الراقصة وفانتازيا الاستعراض والنقر بالأحذية وتجليات الجاز على البيانو، وبين ما نعرفه جيداً عن ماضيه ونشأته وعلاقته بنفسه وبالعالم، وبالمثل فيما يتعلق بالشخصية الدخيلة على عالمه وعالمنا المشترك معه "لي" أو "ليزا".باستثناء مشهدين أو ثلاثة تقريباً لها، أحدهم وهي تحطم واجهة أحد المحال، لكي تأخذ معها التلفاز الذي يعرض لقاء لآرثر مع مذيع سخيف يحاول السخرية منه، والثاني وهي تضع مكياج أنثى الجوكر قبل الذهاب للمحاكمة، والثالث وهي تمسك المسدس الصغير الذي سبق وأن كان أداة قتل آرثر للمتنمرين في الجزء الأول، وتفكر في الانتحار.
باستثناء هذه المشاهد العابرة جداً، لا نكاد نعرف عن "لي" أي شيء سوى المعلومات المزيفة التي تسوقها لنا ولآرثر لكي تقنعه بأنها مريضة في المصحة، وأن أمها أودعتها هناك بعدما حاولت حرق منزلهم عقب وفاة والدها، أو حتى عندما تصارح آرثر بحقيقتها وأنها حامل، وهو الحمل الذي لا ندري ما هو مصيره؟، وهل هو مجرد كذبة لتهدئة بال آرثر بعدما علم حقيقتها؟.
في لالا لاند كان من الممكن تصور حجم الشطحات الخيالية الاستعراضية التي تنتاب الأبطال بحكم كون الشاب موسيقي، والفتاة ممثلة ومؤدية فنية، لكننا في الجوكر لا نكاد نتمكن من صياغة هذا الرابط الذي لا يهتم الفيلم بتقريب المسافات بيننا وبينه على مستوى بناء الشخصيات، أو تهيئة البيئة الشعورية والذهنية لشطحاتهم الراقصة، والتي بدت دخيلة وغير مفهومة ومكررة في كل مرة تنطلق فيها الموسيقى، ويسطع الضوء في عيوننا بشكلٍ نمطي.بل أن الفيلم يستغرق الفصل الأول تقريباً في تكرار مشاهد الأغاني والرقصات الخيالية بين آرثر وليز، وكأنها غاية في حد ذاتها، وليست وسيلة لتأسيس العلاقة العاطفية بينهما، فهناك من أغنيتين لثلاثة على الأقل يحملن نفس المعنى طوال مرحلة تأسيس العلاقة، رغم أننا منذ أول رقصة أدركنا أنهما غارقان في الحب بشكلٍ عنيف.
وفي مقابل استهلاك كل هذا الوقت في تأسيس العلاقة، يمر السيناريو مرور الكرام على اكتشاف "آرثر" لتزيف "لي" حقيقتها، وأخيراً يكتفي بمشهد انسحابها من المحكمة غاضبة ومحبطة وانتظارها له وهي تدخن على السلم، ثم تخليها السلس جداً عنه من دون رقصات ولا أغاني، حين يحاصره البوليس لاستعادته مرة أخرى عقب الفرار.
خدعة الأفيش
في واحدة من أفيشات الفيلم، نجد كل من الجوكر وأنثاه وهما يركلان الهواء- العالم- المجتمع بأقدامهما المرفوعة على طريقة الرقصة الشهيرة له، بينما يقفان فوق السلم الشهير الذي اقترن باسمه وشخصيته وفلسفته، ولكن حين نشاهد الفيلم فإننا لا نجد أي حضور لما يقدمه البوستر من إرهاص بأننا أمام حالة جنون متفاقمة، نتيجة عثور الجوكر على نصفه الآخر في لحظة حساسة جداً، وهي محاكمته من قبل القانون والشرع والمجتمع، المتمثل في القاضي الصارم، ولجنة المحلفين، ووكلاء النيابة المنمقين جداً.
لقد بنى الفيلم صراعه، لا على أصل الأزمة بين آرثر- الجوكر والمجتمع الفاسد والمُهين، ولكن على سياق آخر تماماً وهو أن هزيمة آرثر جاءت محاولة لمقاومة التأطير والقولبة التي أرادت "لي" وأتباعه ومريديه أن يصيغوه، مثلما رسمت له الابتسامة على الزجاج، وبالتالي أصبح لدينا توجه فكري ونفسي وذهني مختلف تماماً عما راكمه الفيلم فعلياً في أذهان ونفوس المشاهدين في الجزء الأول، بل ولم تحظَ هذه الهزيمة بالتبرير أو التأصيل الكافي، فآرثر يمحو أثر ابتسامة الجوكر عن وجهه، ويعترف بالجرائم الخمسة وفوقها جريمة قتل أمه، بشكلٍ مجاني جداً، سهل جداً، من دون مقاومة تذكر أو تشبث أو حتى دفاع حقيقي عن منطقه التدميري.وفي النهاية، بينما ينزف دمه إثر الطعنات الرافضة لكونه ليس الجوكر، وإنما مجرد كوميديان فاشل في بار منحط، يحاول آرثر أو المخرج تبرير موقفه الانهزامي في المحكمة، بأنه يرغب في أن يكون العالم مكانا يصلح؛ لأن يحيى فيه طفله القادم -الذي نسيناه تماماً في خضم الأغاني- دون أن يكون لتلك الرسالة المباشرة السمجة كأنها دعابة أخيرة ثقيلة الظل، أي تأثير شعوري أو ثقل ذهني لكي تكون أو تصلح كخاتمة لملحمة مهمة وقراءة مغايرة لشخصية صُنفت أنها رقم واحد في أشرار السينما والقصص المصورة.
لقد هبط الجوكر منتصراً من فوق السلالم في الجزء الأول، تاركاً شعلة من الأسئلة والتأويلات، لكنه عاد في الجزء الثاني، فصعد بنا مهزوماً ليس فقط على مستوى الحكاية أو الشخصية، ولكن حتى على مستوى الفيلم ككل.