محمد بن راشد: نسعى لتوفير أفضل نوعيات الحياة للمواطن والمقيم والزائر
le règne animal .. وباء غريب يجعل آدميين يتحوّلون تدريجياً إلى حيوانات
ينطلق "مملكة الحيوان" بوضعيّة مُمعنة في الغرابة، حتى يكاد المُشاهد يعتقد أنّه بصدد فيلم أبطال خارقين. مراهق ووالده يتجادلان في السيارة، بانتظار الضوء الأخضر، ينشب صراع في سيارة إسعاف قربهما، قبل خروج كائن مزيج من آدميّ وبومة، يصرع الحراس، ثم يفرّ. "يا لها من حقبة"، تكفي هذه الجملة البسيطة، التي يقولها الأب لسائق سيارة مُجاورة، ليضعنا المخرج وكاتب السيناريو توما كايْيّ في قلب التصوّر الجمالي لفيلمه: العبث، باعتباره لقاء بين فكرة غير عقلانية، لا شيء يُفسّرها، ولا تحترم المنطق المتعارف عليه، بحيث يعجز الإنسان عن فهم العالم الذي يعيش فيه، فيتجاوب معه، بشكلٍ هزلي أو تراجيدي.
يبدو فرنسوا (رومان دوريس) معتاداً الداء الغريب، حين ينتقل رفقة ابنه إميل (بول كيرْشِر) إلى جنوبي فرنسا، للاقتراب من زوجته لانا (فلورانس ديريتز)، المُصابة بداء التحوّل. اقتصاد الفيلم، واتّسامه بالغموض في مقاربة وضعية الزوجة، ثم اعتماده على مفاتيح فيلم التعلّم في تناول يوميات إميل في المدرسة، قبل أنْ يتحوّل بدوره، على منوال شخصياته، إلى ثريلر ترقّب وتعقّب، ينهل من سينما الرعب والحركة، كلّها تحقّق تناغم الشكل والمضمون، لتصنع فيلماً قوياً بزخم وتحكّم ليسا غريبين عن مخرج، أبان منذ فيلمه الأول "المحاربون" (2014) عن أصالة نظرة وقدرة على التقاط روح العصر.
طرح "مملكة الحيوان" استعارة بلاغية دالّة، عن مرضٍ يأكل المجتمع الفرنسي من داخله: أزمة الهوية، التي تستبدّ منذ سنوات بساحة النقاش العمومي، عبر الجدل حول معاني الاختلاف وحدود الحرية الخاصة، ومدى القدرة على تقبّل الآخر. الغيرية التي تستدعيها وضعية التحوّل، تُحيل ببراعة إلى أسطورة "سفينة ثيسيوس": هل يبقى الكائن الذي استبدلت الواحدة تلو الأخرى كلّ مُكوّناته، الكائن نفسه في العمق؟ لعلّ نظرات الشخصيات في عيون المتحوّلين، بحثاً عن ذلك القريب الذي عرفوه، تقول كلّ شيء، وتُحيل إلى تفعيلة راسخة في السينما، كانت وما زالت أفلام الزومبي الأكثر اعتماداً عليها.
كفيلمه الأول، ينحو كايْيّ إلى الطبيعة، باعتبارها منبع البشرية ومنزعها في آن، حيث تبدو الغابة، بتوحّشها وغموضها، فضاءً ساحراً وخطراً، ومساحة لقاء مُمكن بين الآدمية والوحشية، خاصة أنّ الشرطة منعت ارتيادها بقرار صارم، ليصبح مجرّد التنزّه فيها تمرّداً على القانون، ما يُعدّ لمحة ذكية أخرى عن القوانين التي تسم الأفراد، انطلاقاً من نوعهم أو عرقهم أو توجّهاتهم، فتحدّ من امتزاج الهويات، وتُشكّل بحدّ ذاتها عقبةً أمام التناغم المجتمعي المنشود.في مشهدٍ ليلي جميل، بينما يبحث فرنسوا وابنه عن لانا وسط الغابة، في سيارة تشقّ بضوئها الأمامي ظلام الليل البهيم، يضع فرنسوا أغنية بيار باشليه "إنها من عالم آخر"، بكلمات تقول في مقطع: "ووقعت في عبودية هذه الابتسامة، هذا المحيّا. فقلت له خذني، أنا مُستعدّ لجميع السّبل، نحو أماكن أخرى، وشواطئ مغايرة. لكنّها تمرّ، ولا تجيب.
الحبّ، بالنسبة إليها، لا قيمة له. بالنسبة إليّ، هذا أكيد. إنّها من عالم آخر". أغنية تستحضر الغيرية، مرثية حنين إلى زمن اجتماع العائلة، وقصيدة مدح الآخر، ذلك الناشز والمتنافر.رغم أن الأغنية، من فرط تداولها وشهرتها، تُعبّر عن كليشيه مطلق، لا يُخطئ الجو الشاعري والحماسة ـ اللذين تضفيهما على مشهد السيارة المنطلقة ـ لَمْسَ قلب المشاهد، خاصة حين يخرج فرنسوا وابنه، فيناديان على لانا بأعلى صوتيهما، بينما تعلو الابتسامة محييهما، قبل أنْ يؤطّر كايْيّ السيارة من وجهة نظر خارجية، ليستدعي وجهة نظر لانا، التي تبدو كأنّها ترافقهما جرياً من خارج الحقل. السينما الشاملة، التي تنطوي عليها هذه اللقطة، وكيف تلوي عنق كليشيه لتصنع منه لحظة تجلّ للوحدة العائلية المفتقدة، بتمازج أدوات من صلب السينما كالأغنية، وتضاد التراجيديا والهزل، الحاضِرَين في تصرّفات الشخصيات، كلّها عناصر تقول الكثير عن أسلوب توما كايْيّ المتفرّد.
تقنياً، توفّق "مملكة الحيوان" في تمثل الشخصيات المتحوّلة، بفضل عمل طويل على تصوّرها بين المخرج ومؤلّف القصص المصوّرة فريدرك بيترز، والنهل من مرجعيات مختلفة وغنيّة، كمنحوتات الأسترالي رون مويك، المازجة بين السيليكون والصباغة الزيتية، لاستدعاء شعور مرضي بالجسد، رغم واقعيتها الظاهرة.تغوص بداية الفصل الثالث في إطالة، خاصة في مقاطع الرجل ـ البومة، الذي يتعلّم الطيران على ضفاف بحيرة، والمقاطع يشوبها شيءٌ من التوقّع. لكنّ الفيلم يُعيد مَسك الحكي في الختام، بمَشاهد تحبس الأنفاس بجمالها، تُكتشف فيها، بعيني إميل، مملكة الحيوان، ساحرةً أكثر من كونها خطرة، تعيش في سلام وانسجام، ولا يصدر فيها كائن أحكاماً مُسبقة على المختلف عنه، ليتحقّق في ذهن المُشاهد لبّ طرح كايْيّ، القائل إنّ الأفكار الجاهزة التي نلوكها في خطابنا عن مفاهيم الآدمية والوحشية، أقلّ وضوحاً وتجزئة ممّا نعتقد، خاصة في ضوء راهن العالم كما تصنعه الحروب الهمجية والجرائم المهولة، باسم منظومة الحداثة المزوّرة، والحرية المزعومة.
الحبّ، بالنسبة إليها، لا قيمة له. بالنسبة إليّ، هذا أكيد. إنّها من عالم آخر". أغنية تستحضر الغيرية، مرثية حنين إلى زمن اجتماع العائلة، وقصيدة مدح الآخر، ذلك الناشز والمتنافر.رغم أن الأغنية، من فرط تداولها وشهرتها، تُعبّر عن كليشيه مطلق، لا يُخطئ الجو الشاعري والحماسة ـ اللذين تضفيهما على مشهد السيارة المنطلقة ـ لَمْسَ قلب المشاهد، خاصة حين يخرج فرنسوا وابنه، فيناديان على لانا بأعلى صوتيهما، بينما تعلو الابتسامة محييهما، قبل أنْ يؤطّر كايْيّ السيارة من وجهة نظر خارجية، ليستدعي وجهة نظر لانا، التي تبدو كأنّها ترافقهما جرياً من خارج الحقل. السينما الشاملة، التي تنطوي عليها هذه اللقطة، وكيف تلوي عنق كليشيه لتصنع منه لحظة تجلّ للوحدة العائلية المفتقدة، بتمازج أدوات من صلب السينما كالأغنية، وتضاد التراجيديا والهزل، الحاضِرَين في تصرّفات الشخصيات، كلّها عناصر تقول الكثير عن أسلوب توما كايْيّ المتفرّد.
تقنياً، توفّق "مملكة الحيوان" في تمثل الشخصيات المتحوّلة، بفضل عمل طويل على تصوّرها بين المخرج ومؤلّف القصص المصوّرة فريدرك بيترز، والنهل من مرجعيات مختلفة وغنيّة، كمنحوتات الأسترالي رون مويك، المازجة بين السيليكون والصباغة الزيتية، لاستدعاء شعور مرضي بالجسد، رغم واقعيتها الظاهرة.تغوص بداية الفصل الثالث في إطالة، خاصة في مقاطع الرجل ـ البومة، الذي يتعلّم الطيران على ضفاف بحيرة، والمقاطع يشوبها شيءٌ من التوقّع. لكنّ الفيلم يُعيد مَسك الحكي في الختام، بمَشاهد تحبس الأنفاس بجمالها، تُكتشف فيها، بعيني إميل، مملكة الحيوان، ساحرةً أكثر من كونها خطرة، تعيش في سلام وانسجام، ولا يصدر فيها كائن أحكاماً مُسبقة على المختلف عنه، ليتحقّق في ذهن المُشاهد لبّ طرح كايْيّ، القائل إنّ الأفكار الجاهزة التي نلوكها في خطابنا عن مفاهيم الآدمية والوحشية، أقلّ وضوحاً وتجزئة ممّا نعتقد، خاصة في ضوء راهن العالم كما تصنعه الحروب الهمجية والجرائم المهولة، باسم منظومة الحداثة المزوّرة، والحرية المزعومة.