يستثمر متناقضات المكان والطبقة، لتحفر عمقها

(Que Viva Mexico).. كوميديا خفيفة تحاكي تاريخ المكسيك

(Que Viva Mexico).. كوميديا خفيفة تحاكي تاريخ المكسيك

"رغم أصولك الوضيعة، صِرْتَ منا". هكذا يرحب صاحب المصنع بالمدير، الذي يبتسم لابتلاع الضفادع، في "تحيا المكسيك (Que Viva Mexico)" للويس إسترادا (إنتاج عام 2023). يعلن صاحب المصنع أنّه قلق من رئيس مكسيكي منتخب، شعاره "الفقراء أولاً". يجاريه المدير البهلواني، محاولاً طمس وعيه الشقي. يتظاهر المدير، ابن الكادحين الذي تبرجز ويكره ماضيه، بأنّه يتبنّى نظرة الأغنياء له لاسترضائهم، لأنّهم الطرف الأقوى في علاقة اقتصادية. يُنفّذ سياسة أسياده. يُخيّر العمال بين نقل المصنع إلى آسيا وتخفيض عددهم. ينفّذ الحلّ الثاني، فيحتفل صاحب المصنع. بفضله، فاقت الإنتاجيةُ الخيال.
 
حقّق ابن الفقراء حلمه. خَدَم وتزوّج ابنة أسرة غنية، ليطمس "أصله الوضيع". لاحقاً، يهنّئه والده لأنّه تزوّج "امرأة بيضاء، تحسّن نسله". في الوضع نفسه، نكتشف غضب الأب، لأنّ ابنته حامل "من أجنبي لا يتحدّث الإسبانية".
 
هذه كوميديا خفيفة تستعيد طبخة كليشيهات تحاكي تاريخ المكسيك،
 المتأثّر بموقعه الجغرافي. كوميديا تستثمر متناقضات المكان والطبقة، لتحفر عمقها. تُعدَم دمية اليانكي ببهجة. تجري احتفالات مكلفة من دون مناسبة. فقراء موعودون بالفوز ينفقون على حفلة، قبل أنْ يكسبوا، فيغرقون في الديون. يبيعون جلد الدب قبل صيده.
يقدم الفيلم محاولة ضغط تاريخ البلد الشقي في 3 ساعات، عبر مقاربة ساخرة. في المدينة يعاني المدير متطلبات "المدام" وذوق طعام الأطفال. يضطر إلى السفر فجأة، للقاء حثالة عائلته. صار زملاؤه في الدراسة قطاع طرق. يعود إلى القرية القاحلة في جنوبي البلد، التي وُلد ودَرس فيها. هناك يعاين ويعايش بؤس مكسيك الزمن الميت، حيث ينتظر الأولاد الفاشلون إرثاً يغيّر حياتهم.
 
يتحامق المدير لتجاوز الأوضاع الصعبة. يعيش تمثيلية الأرستقراطية لزوجته وأهلها، هي التي أهدت ربطة عنق من "هرمس" لفلاح يسكن كوخاً في منطقة حارة. يطرد الريف المواهبَ، والويل لها إنْ رجعت إليه. ليس لدى المخرج أي وهم حول النهايات السعيدة لوُصُوليّ مُحدَث نعمة، تنكّر لأصوله.
يحيل عنوان الفيلم إلى وثائقي صوّره سيرغي إيزنشتاين عام 1932، فيه تماثيل وأقنعة كثيرة، استخدمها غييرمو دِلْ تورو في أفلامه، خاصة في السيرك. الفيلم الجديد محاكاة ساخرة للنبر الثوري المتجهم، بواسطة كوميديا كرنفالية مرحة، مُبالغ فيها.
 
ما الذي يجري؟
شاعر أعرج جائع يتغنّى بالنجوم والببغاوات والطيور. جنازة سريالية. أمّ تشرب الفودكا في طقسٍ، درجة حرارته 40، لتكون الحماقات مبرَّرة فيزيولوجياً. جَدّ في تابوتٍ، تتبعه مُعزّية فوق حمارة. يرثي الكاهن الجدّ بكلمات عظيمة، فتطلب الجدّة منه أنْ يكفّ عن هذا الهراء والكذب. هكذا يُفضح نفاق المقابر.
إنها الواقعية السحرية التي تُعرّي البلد. كوميديا حماقات تغلّف عنفاً اقتصادياً واجتماعياً. ينكشف الورثة حين يظهر ذهب الجدّ الراحل. تعفّن جسد الجدّ المقدّس وهو بكامل ملابسه النضالية الرسمية. منافقون يخشون الرب. كلّ واحد يريد نصيبه فوراً. حين يضيع الذهب، يبحثون عن خطة اختطاف طفل في الإنجيل. لم يزعموا أنّ الذئب أكله.
 
هذا عبث. 
هذه مفارقات تفضحها الجدّة التي تعيش الماضي والحاضر دفعة واحدة. لا تنتقي ما تقول. هكذا تكشف حقائق بإيجاز، وتتسبّب في معارك بين الورثة.
يكشف "تحيا المكسيك" (نتفليكس) الطريقة التي يُحكم بها البلد. في العاصمة، انتُخب رئيس يحب الفقراء، وفي المنطقة النائية يُترجم العمدة هذه السياسة، ويقرّر أنّ سعادة الفقراء أولوية حكومية، شرط أنْ يستسلموا بهدوء. يُظهر الفيلم الوضعية الاقتصادية للشخصيات، ثم تأتي وصية سريالية لتقسم الحمير بين الورثة.
 وصية تُذكّر بسانشو بنثا، وهو يُصرّ على أنْ يوصي دون كيخوته له بحميره. 
لكنّ الفارس المغوار منشغل بكتابة رسالة لحبيبته، ولا وقت له للكتابة عن الحمير الصغار ("دون كيخوته" لثيربانتيس، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار المدى، دمشق، ط. 3، 2009، ص. 238).
 
بينما يتقاتل الفقراء بسبب حمار، يحلم رجل الأعمال بزعيم ليبرالي في المكسيك. تجد النخبة الاقتصادية المكسيكية مصالحها مع أميركا، بينما الشعب عِبء بالنسبة إليها. لذلك، يعلن الرئيس أنّه يحبّ الشعب لتخويف رجال الأعمال، الذين لا ينظرون إلى الفقراء كمواطنين. النتيجة؟ قرارات اقتصادية سيئة دعمت الاحتكار، ما عمّق الفوارق الاجتماعية.
 
 هكذا مسح لويس إسترادا التاريخَ الثوري للمكسيك بمدخل اقتصادي. يؤكّد الأنثروبولوجيون "أولوية الظروف المادية في فهم البشر" ("تاريخ النظرية الأنثروبولوجية" لتوماس هايلاند إيركسون وفين سيفرت نيلسون، ترجمة لاهاي عبد الحسين، منشورات ضفاف، بيروت، ط. 1، 2013، ص. 43). من دون هذا المدخل السوسيواقتصادي للفهم، يصير كلّ سرد فيلميّ إنشاءً حالِماً، كما قدمه مخرجون مكسيكيون آخرون، تجاهلوا تاريخهم المحلي بحثاً عن العالمية، وسردوا حكايات بينوكيو والسيرك وروما.
 
بينما تحيا مكسيكو العاصمة، تعاني المنطقة النائية، حيث يتقاتل الورثة على السبائك. في غفلة منهم، سيّجت شركة أميركية المنجم بكامله.
حزانى، يقف الورثة موحَّدين خلف سياجات حديدية، غير قابلة للاختراق. يراقبون جرّافات أميركية تحفر بشراسة. بينما الجدّة المقعدة تلخّص الدين والتاريخ في جملة واحدة، تطرح نظرية جغرافية، وتفسّر تاريخ البلد: "المكسيك بعيداً من الرب، قريباً من الولايات المتحدة".