منصور بن زايد: المتحف يعكس رؤية الإمارات نحو تعزيز الثقافة والسلام والتعايش
The Bear: مسلسل يتجاوز حدود التصنيفات الجاهزة
احتل مسلسل The Bear قوائم المشاهدات الحالية، بعد فوز الممثل جيريمي آلن وايت بجائزة غولدن غلوب عن أفضل ممثل في مسلسل تلفزيوني موسيقي أو كوميدي لعام 2023. لم يكن The Bear قبلها عملًا "مترقبًا"، يرجى منه أن يحصد ملايين المشاهدات والأرباح، كما لم تسبقه حملات دعائية وتسويقية مكلفة، أو أسماء ضخمة تضمن نجاحه الجماهيري. بفضل تلك الأسباب الإنتاجية، وأخرى تتعلق بنوع العمل، شكل The Bear رهانًا خطرًا قبلته شركة FX من دون تردد، وأعلنت أنها ستصدر جزءًا آخر عنه في الأشهر القليلة القادمة أيضًا.
يتسلم كارمي المطعم العائلي المتوارث عقب انتحار شقيقه مايكل لأسباب مبهمة، ويقرر تحويل النظام العشوائي الذي سار عليه شقيقه برفقة "ابن العم" ريتشي (إيبون موس باكراك) سابقًا وأودى بجودة المطعم، إلى آخر رسمي وأكثر حداثة، فيعين الموظفة الجديدة المتخرجة من أكاديمية الطبخ سيدني (أيو إيديبيري) مساعدة لرئيس الطهاة، ويطبق نظام اللواء الفرنسي لتحديد التسلسل الهرمي الوظيفي، ويقضي يومه في حل المشاكل وإصلاح الأعطال والأعصاب التالفة داخل المطعم، وفي الاختناق بالهلاوس والذنب والسجائر الرخيصة خارجه.
لا يترأس كارمي المطبخ المهترئ ومعداته المخلخلة فحسب، بل يرث صراعاته الناشئة وسط مكان أصغر من أن يتسع للضغائن، وأكبر من قدرة شابين لا يملكان شيئًا على إدارته. ويواجه أسئلة حول هوية المطعم ومكانته السوسيولوجية، وأخرى تتعلق بالسلطة والملكية؛ يريد العم استرداد دينه أو شراء المكان، كما تأتي الأخت بأخبار سيئة من مصلحة الضرائب، ويجبر طاقم العمل على إقامة حفلات عزوبية غالبًا ما ينتهي معظمها بكسر بعض العظام والطاولات. لا شيء يجري كما يجب. مع ذلك، يعتزم كارمي إنقاذ المطعم العائلي، لأسباب لا يبدو أنه يعرفها حتى.
تبدو محاولته في تطوير المطعم سوريالية في بادئ الأمر، خاصة مع انحدار تقارير التفتيش الصحية، وتفجر السباكة الرديئة وتفاقم "مشاكل الشارع". ففي ذات الوقت الذي يجبر فيه كارمي موظفيه على أن يطلقوا تنبيهات أثناء مرورهم بالقدور الساخنة خوفًا من حوادث العمل، تتلقى واجهة المطعم رصاصة مجهولة المصدر، لا يبدو أنها تضر بسمعة المحل الموجود أصلًا في حي لبيع المخدرات، والودود مع فتيان زواياه.
يتحدث مخرج العمل عن لافتة مطعم حقيقية ألهمته لصناعة مسلسل The Bear، كُتب على اللافتة: "على الرغم من أنه عام 2022، إلا أن 1988 لا يزال هنا". توضح تلك المقولة حال معظم مطاعم حي ريفر نورث التي افتتحت منذ ثلاثين عامًا، لتغدو شيئًا أكثر من مجرد "مكان لتقديم الطعام"، فتصبح مرتعا لذات الزبائن المتكررين، أولئك الذين يريدون التسكع والتحدث بلغاتهم بطلاقة، والتدخين في الأماكن المغلقة، بينما يتناولون شطيرتهم المفضلة. يضع The Bear نموذجًا عن تلك المطاعم التي اكتسحتها موجة الحداثة في أميركا، إذ يقدم المطعم ساندويتش لحم البقر الإيطالي الذي نشأ في شيكاغو في ثلاثينيات القرن المنصرم، وازداد الطلب عليه حديثًا في أسواق المدينة بعد عرض مسلسل The Bear.
لتلك الشطيرة تقاطعات واضحة مع هوية المدينة وأبنائها، خاصة أولئك الذين ينحدرون من أصول إيطالية، مثل "ابن العم" ريتشي، إذ طالما شكل ذلك الطبق الرخيص نسبيًا وجبة مناسبة للمهاجرين والطبقة العاملة في أميركا، ورد فعل على صناعة اللحوم المعلبة ومطاعم السلاسل التي بدأت بالانتشار في العشرينيات.
أما اللحم، وهو المكون الرئيسي للشطيرة الشهيرة، وأحد أهم استعارات المسلسل، فيرتبط استهلاكه بالثقافة الأميركية بشكل وثيق، خاصة عبر دوره في صياغة الشخصية الأميركية "الفخورة" بنزع ملكية الأراضي الهندية الأميركية من الصيادين والمزارعين لتربية الماشية وتطوير صناعة اللحوم، و"المتخمة" أيضًا، تعبيرًا عن الاكتفاء الذاتي.
لكن العامل المفاهيمي الأهم للحم، والذي يركز عليه The Bear بشكل خاص، فيكمن باعتبار استهلاكه شكلًا من أشكال الذكورة المفرطة، واستخدامه في العامية الأميركية للدلالة على النزاع (Beef) والعضلات المفتولة، فضلًا عن كونه عاملًا أساسيًا في التغييرات البنيوية التي تقترحها المجتمعات الحديثة في التحول إلى نظام غذائي نباتي.
تتعارض شخصية كارمي، وهو سليل المطاعم الأوروبية الحديثة وحريف الأطباق الأصغر من أن ترى بالعين المجردة، مع تراث المطعم وروحه الكلاسيكية. تلك الأخيرة يعبر عنها بوضوح ابن العم ريتشي، الصديق القريب والبعيد عن كارمي في آن؛ رجل قد يواصل سيره حتى وإن طُعن بسكين، (أمر يحدث فعلًا)، ويرفض بعناد قواعد كارمي الجديدة، انطلاقًا من ولائه لمايكل، ولكل ما تمثله شطيرة اللحم الإيطالية لأبناء جلدته.
بالنسبة للبقية، فالتغييرات تعبث بنظامهم المعتاد، وتهدد آخر معاقلهم الملموسة، وتدحض إثباتهم الوحيد على أنهم ما زالوا موجودين، مثل تينا؛ سيدة المطعم التي تتحدث الإنكليزية بصعوبة، وتجاهد في إبقاء عائلتها بعيدًا عن وحشية الفقر في الشارع. أما الخباز ماركوس، وقد أكد مخرج العمل أنه شخصية "علينا جميعًا أن نحميها"، فتحفزه تلك التجديدات وتوقظ حلمه الأبدي في صناعة الدونات المثالية، محافظًا على تركيزه وسط غليان القدور النحاسية من حوله، وترسب الأحلام ميتةً في قعرها.
يجتهد صانع العمل في نحت العوالم النفسية للشخصيات، ويصنع بمعايير دقيقة ثنائية غير نمطية، يمثل كل من ريتشي وكارمي قطبيها المتنافرين. ومع أن الشابين ينحدران من عالمين متناقضين كليًا، لا يفترض المسلسل أن أحدهما يقدم رؤية أكثر صوابًا عن العالم أو فهمًا أدق لذاته على الأقل، فكما يعبر ريتشي عن أساه العميق بالتهكم والعنف اللفظي والجسدي، ويخفي شعوره العميق بالتشتت وعدم الانتماء بمزيد من التعصب إزاء أصوله، يدفن كارمي مشاعره عميقًا؛ يقطع الخضار ويفرك الأرضيات ويشغل نفسه بمهام روتينية تمنعه عن التفكير، ممسدًا شعره الدهني بفعل أبخرة الطبخ إلى الوراء، دافعًا معه بالأفكار السامة والهلاوس خلف ظهره إلى حين أن ينتهي النهار الشاق.
سلوكه المهني هوسي وإدماني، مشابه لذاك الذي أودى بحياة أخيه مايكل. هو البطل المعطوب، صديق نيران الموقد، المكوي برحيل أخيه بعدما تجنبه الأخير لسنوات قبل وفاته من دون سبب، والناجي من بيئة عمل سامة، يبدو أنه لم يتخلص حتى اليوم من آثارها المدمرة.
خلف ذلك المشهد المشبع بالحلل والصدأ وضمادات الجروح المتسخة، تكمن صورة فجة عن العالم المعاصر، وانتقاد للذكورة السامة وضحيتها الأكثر وضوحًا، ريتشي، وحكاية مؤلمة عن الخسارة والإدمان والانتحار مع قصة مايكل، أو ربما تساؤل عميق عن جدوى العيش وعما إذا كان من الممكن بعد جعل العالم "مكانًا أفضل"؛ سؤال تطرحه نهاية المسلسل على نحو مفاجئ وبأسلوب Deus ex machina، وهي آلة تهبط بالحل "الإلهي"، وفقًا لتقاليد المسرح الإغريقي، عندما تفشل حلول الأرض في حل العقدة.
لا ينبغي الحديث عن The Bear من دون التطرق إلى الأداءات الهائلة التي قدمها كل من وايت وباكراك وإيديبيري، أو ذكر الصورة المشبعة باللون والتفاصيل، بدءًا من بوستر العمل الذي يعيدنا بتصميمه لعصر الكولاجات الدعائية، إلى التشكيلات البصرية والكوادر والسينماتوغرافي المدروسة بعناية، خصوصًا تقنية الـ Close up لإبراز تحديقة أو حركة يد أو اللقطات الطويلة غير المتقطعة، التي يتجاوز طول بعضها الـ17 دقيقة، عبر عمليات مونتاج متسارعة تنقل حدة المواقف وإيقاعها،
وصولًا إلى البراعة الكبيرة في تجسيد الكواليس الخلفية للمطاعم، وأجوائها الجحيمية، أو وحدة غرف الجلوس وتلفزيوناتها الصادحة في وجه عتمة الليل.
أيًا كانت الدلالات، وهي كثيرة في هذه الحالة، ينبذ The Bear الوصفات الجاهزة بسيناريو تلفزيوني متقن كتبه مخرج العمل كريستوفر ستورير، إلى جانب جوانا كالو، وآخرين.
ومع أنه صنف كوميديًا، ونال جائزته، وربما أخرى عديدة قادمة، وفقًا لتلك الفئة، إلا أن The Bear يثبت مع مرور الوقت أنه مسلسل يتجاوز حدود التصنيفات الجاهزة، ويحجز لنفسه مكانًا أهم من ذاك الذي تتنافس عليه الأعمال التجارية يوميًا.