محمد بن راشد: نسعى لتوفير أفضل نوعيات الحياة للمواطن والمقيم والزائر
قصة محبوكة بتناغمٍ وحِرفية عالية
"Tótem".. نموذج عملي لسينما الوجع والآلام
شكّل المونتاج (عمر غوزمان) في "طوطم" (2023، إنتاج مشترك بين المكسيك والدنمارك وفرنسا، 95 د.)، للمكسيكية لِيلا أفيلَس (1982)، مُنعرجاً حاسماً، وأُعطي له بُعداً جمالياً، بعد أنْ ضاعف من عملية التواصل، وتوليد اللغة السينمائية الصافية، التي أوجدت مشاعر كثيرة تُحيل إلى الوجع والآلام المبرحة. إنّه المُعطى الذي قَيّد المُتلقي أخلاقياً، وأرغمه على تلقّف كلّ تفاصيل العمل، وأيضاً سَحْبه بكلّ لطفٍ إلى فضاءات البُعد الفني، الذي ولّدته الجماليات البصرية المتعدّدة، وما شكّله هذا العنصر على باقي الأبعاد الأخرى. مزج صاحب هذه اللمسة السحرية، المُوَلِّف غوزمان، بين كلاسيكيات هذا المصطلح، من منطلق إسناده الفكري والفلسفي، والحداثة، ومدى ارتباطها بالتقنية وسرعة التنقّل بين المَشاهد، لزرع اليقظة والانتباه.
شارك "طوطم" (تميمة، Tótem) في مهرجانات سينمائية عالمية. لكنّ انطلاقته الأولى كانت في الدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير/شباط 2023) لـ"مهرجان برلين السينمائي". استعارت المكسيكية أفيلَس (كاتبة السيناريو أيضاً) عينيّ الطفلة سُلْ (نعيمه سنتياس) لترى عبرهما آلام العالم وأوجاعه، ولترى العالم بنظر الطفلة (7 سنوات)، ليس بموجوداته وفضاءاته المتعدّدة، بل بأمر محصور: والدها تونَتيّو (ماتيو غارثيّا)، المُصاب بالسرطان، والرافض المعالجة الكيميائية، نتيجة إفرازاتها التي لا تُحتمل، والراضي بجرعات مورفين فقط، كي لا يحدث معه ما جرى مع والدته، المتوفية بسبب المرض نفسه قبل عشر سنوات. لهذا، اختار أنْ يكون وسط عائلته الكبيرة، مع والده وإخوته وأخواته وأبنائهم، يُخفّف آلامه عبرهم، وينتظر نهايته الحتمية، التي يسوقها له القدر.
وسط كلّ هذا، تنقل أفيلَس، بمشاهدها السريعة والمتوسطة، طقوس كلّ فرد من العائلة، وكيفية تعبيره عن داخله، وجميعهم يرون ابنهم الشاب والرقيق، الفنان التشكيلي تونَتيّو يذبل ويذوي أمامهم كشمعةٍ تتلاعب بها الريح. لهذا، عمل كلّ واحدٍ منهم، بطريقته الخاصة، على مجابهة هذا المرض الخبيث، وقرّروا تنظيم حفل عيد ميلاده، لإخراجه من العزلة، وجمعوا أحبّته، وصنعوا له مفاجأة، في ظل انهياره الجسدي والروحي المتخبّط فيه.
عرفت ليلى أفيلَس كيف توزّع عواطف قصتها في كلّ فصل، صانعةً منها منطلقاً أساسياً لصنع بعده الإنساني، بعد أنْ فكّكت العلاقة القوية بين الابنة والأخت والأخ والوالد، من منطلق مرض تونَتيّو. كانت قاسية جداً، ليس من منطلق الشرّ، بل لأنّها شحنته بعاطفة قوية من الحسرة والحزن والوجع المبكي على حال سُلْ، التي تتجوّل في البيت العامر بالأقارب، وكلّ فرد منشغل بطريقة ما بالحفل: أليخاندرا (ماريسول غازي) تعمل على طرد الأرواح الشريرة من البيت مع عرّافة، تعبيراً عن اليأس الذي بَلَغته؛ ونوريا (مونتسيرات مارانون) مُنهمكة في إعداد كعكعة عيد الميلاد، مع تزيينها كأنّها لوحة تشكيلية، لتحاكي بها اهتمام أخيها المتعب، خاصة أنّها، هي أيضاً، فنانة تشكيلية رقيقة مثله، وتُحسّ به أكثر من الآخرين والأب (ساوري غورزا) يركّز على تهذيب نبتته المُعمّرة؛ وانشغل الأبناء والأحفاد بألعاب الفيديو وممارسة الشغب، لأنّهم، بطريقة ما، لا يعنيهم مرض عمهم/خالهم، لبراءتهم وعدم استيعابهم حالته الصحية.
تبقى سُلْ شاردة، تركّز فقط على حركة الحشرات، وتشكيل أشياء البيت وتفاصيله، وتتمعّن في لوحاتٍ رسمها والدها. لكنْ، أكثر ما يُشغلها، لقاء والدها الذي يعيش بعيداً عنها، لأنّه لا يريد أنْ تراه وهو يتألّم بشدّة.
ذكاء المخرجة تَمثّل بعدم تقديمها أوراقها، التي تنسج بها إثارة وتشويقاً، بل بتقديمها على مراحل، جاعلةً المُشاهد يتساءل عن السرّ الذي جعل أفراداً من العائلة يمتنعون عن أخذ سُلْ إلى والدها في غرفته، وفي كلّ مرة يقولون حُجةً. كما أنّها ضاعفت من شعور الحسرة، عندما سألت مستغربة، وببراءة الأطفال: "لماذا لا يريد مقابلتي؟". بهذا، تُخفِّف أفيلَس الضغط على المُشاهد، الذي لم يعد يحتمل إثارة أكثر من هذا. لكنّه، بعد كشف السبب، بدأت جرعات الألم تتضاعف، ليس على تونَتيّو المُحتضر وحده، بل على باقي أفراد الأسرة، وعلى المُشاهد الذي شاركهم وأحسّ معهم بكل تفصيل، لأنّ تشكيل المشهد وبناء القصة محبوكان بتناغمٍ وحِرفية عالية.
لأنّ للقصة بُعداً إنسانياً كبيراً، جنّدت ليلا أفيلَس كلّ الجماليات والتقنيات لبلوغ هذا الهدف: الإشارة إلى مرضى السرطان، الذين يعانون ويتألّمون ويعيشون أوضاعاً مأساوية لا تُحتَمل. هذه معطيات يعيشها الأقارب أيضاً، ولو بدرجةٍ أخفّ، لأنّهم يتابعون كلّ لحظة درجةَ وجع يمرّ بها المرضى، وفي الوقت نفسه ينتظرون انهيار الجسد تدريجياً. في أوقات الترقّب هذه، تهوي النفسيات، وتذبل العواطف، وتصبح حياتهم جحيماً لا يطاق.
لتحقيق هذه الصورة القاتمة، قرّبت أفيلَس صُوَر الوجوه، وهذه تقنية تقرّب المُتلقي من الشخصيات، وتنسج معهم علاقات عاطفية للتشابك مع مشاكلهم ومآسيهم (إنّه عنصر مهم، جسّده المُصوّر دييغو تينوريو). كما عملت على الحَدّ من تعدّد الفضاءات، واختارت الفضاء الداخلي فقط، الذي جسّده البيت، مع استثناءات قليلة. كما طوّع المُصوّر الإضاءة القاتمة والرمادية لخدمة الشعور العام، وهذا تجسّد بكثرة في غرفة المريض، كأنّ قتامة داخله انعكست في غرفته، وأصبح يخاف من النور.
كما وُفِّقت في اختيار الممثلين، الذين أظهروا حِرفية كبيرة في عكس الشخصيات الرمادية، المثقلة بالأحزان والقلق والخوف من المقبل، وكلّ واحد منهم يُعبّر عن هذا بطريقته الخاصة، أي إنّهم توحّدوا مع القصّة، وعاشوا فصولها. كأنّ القصة تشبه قصة كلّ واحد منهم، عاشوها بطريقة ما، فخبروا هذا الشعور سابقاً وعاشوه. واستطاعت المخرجة أنْ تُعيدهم إليها، بحسن إدارتها إياهم.
"طوطم" نموذج عملي لسينما الوجع والآلام، أبانت لِيلا أفيلَس عبره وعيها السينمائي وحسّها الإنساني، لاستطاعتها الإشارة إلى قضية مهمّة جداً، ولتقديمها إياها بطريقة جمالية، فأثبتت أنّها مخرجة مُقتدرة، ستُقدّم الكثير للسينما مستقبلاً.