مكتوب بحرفية عالية

Vinland Saga... ثقل الجرائم بين الملك والعبد

Vinland Saga... ثقل الجرائم بين الملك والعبد

Farm Saga أو "المزرعة السعيدة"، ألقاب أطلقها معجبو الأنمي Vinland Saga، الذي عُرض موسمه الأول عام 2019، وحصد جماهيرية عالية، كأنمي من العيار الثقيل يقل مثيله في السنوات الأخيرة، ولا ينافسه سوى Attack on Titan من نوعه، على اختلافهما كأعمال موجهة للكبار ومكتوبة بحرفية عالية.
 
يمكن اعتبار الموسم الأول موسماً ملحمياً يقل نظيره، رغم تقليدية قصة الثأر والعنف، مع نهاية مدهشة غير متوقعة؛ الأمر الذي جعل المشاهدين ينتظرون موسماً ثانياً لا يقل ملحمية عنه. الجانب الذي كان عند توقعات المعجبين، هو الجانب الفني رغم تغيير الاستوديو، إلا أن استوديو MAPPA قدم تحفة بصرية كعادته، تكاد تفوق الموسم الأول، خصوصاً بتقديم الكوابيس والأفكار المظلمة. أما على صعيد الحكاية، تباينت ردود الأفعال بين دهشة وإعجاب من التغييرات الكبرى، وبين إحباط وغضب من معجبين آخرين لم يجدوا الموسم مقنعاً.
 
الوجه الآخر للحرب
منذ بداية الموسم الثاني، نرى الوجه الآخر للعالم الذي رأيناه في الموسم الأول. فبعد أن عشنا 24 حلقة مع الفايكنغ وغزواتهم، ننتقل لرؤية عائلة مزارعين في قرية تتذكر غزو الفايكنغ لقريتهم، وخسارتها لرب الأسرة في ذلك الغزو. ترى والدة إينار أنهم لم يخسروا المعركة، لأنهم أعادوا إحياء قريتهم، وأن البقاء حياً يعني عدم الخسارة.
تلخص هذه المحادثة الفلسفة التي سنراها في هذا الموسم، وذلك عندما يخسر إينار قريته مجدداً على يد الفايكنغ الذين يقتلون ما تبقى من عائلته ويسوقونه عبداً، ليلتقي أخيراً ببطلنا ثورفين الذي انتهى به الأمر عبداً عند المالك نفسه.
وعلى العكس من إينار الذي يجد حياته فرصة واستمراره بالعيش انتصار على دعاة الموت، لا يجد ثورفين الذي خسر كل شيء في الموسم الأول أي سبب للعيش، رغم أن مالكهما وعدهما بالحرية إذا ما حولا الغابة التي يملكها إلى مزرعة، وباعا محصولها له. الموت، والعبودية وضحايا الغزوات والعنف مع القاتل والغازي في المكان نفسه والمكانة ذاتها.
 
المزرعة السعيدة أو المطهر
جاءت تسمية Farm Saga كسخرية من الحلقات الطويلة جداً التي تدور في المزرعة، إذ يحاول كلا العبدين نيل حريتهما بالعمل. العبد المزارع أصلاً ضحية الغزو، وثورفين الذي كان يغزو مع الفايكنغ وقتل عشرات الأبرياء الذين يشبهون عائلة إينار، من دون أن يحقق انتقامه بالنهاية، ليكون في الموسم الأول أشبه بهاملت بطل شكسبير، يعيش قرب قاتل أبيه ويعجز عن قتله لأسباب مختلفة، على اختلاف شخصية هاملت المفكرة عن ثورفين الذي عاش كطفل متوحش بين الفايكنغ، يقتل وينهب الأبرياء.
ردود فعل بعض المعجبين الغاضبة جاءت من كون أغلب حلقات الأنمي مسالمة ومليئة بالأمل، لكن إن ركزنا أكثر سنجد أن حلقات المزرعة ليست وقتاً مسالماً، بل على العكس. كل لحظة مسالمة تذكّر أن الفايكنغ ما زالوا يغزون، وأن أي قرية هي هدف للنهب، وأن هذه الحياة السعيدة ستنتهي في أي لحظة، خصوصاً أننا نرى كنوت الذي اقترب من أن يصير ملكاً بعد تسميمه لأخيه، وقد تغير وحاد عن هدفه في صناعة فردوس على الأرض ليصير ملكاً وحشياً مثل والده.
تمر الحلقات بثقل الخوف من الغزو، وثقل أكبر هو ذكريات ثورفين وكوابيسه من حياته السابقة. تسمح هذه المدة الزمنية لثورفين بالتفكير جيداً في خطاياه وثقل جرائمه، وتساعد الأحداث ووجود إينار والوقت الطويل ثورفين في تغييره من رجل لا يجد معنى من حياته إلى رجل يهدف إلى عالم من دون قتل وعبودية.
 
ثقل الجرائم بين الملك والعبد
بالتوازي مع كوابيس ثورفين، يعيش كنوت كوابيسه الخاصة، بينما يشق طريقه ليصبح ملك إنكلترا والدنمارك بمساعدة الفايكنغ. يحلم ثورفين بضحاياه وهم يجرونه إلى جحيم من القتال الأبدي، بينما يرى كنوت رأس والده الملك سوين يضحك من تحوله إلى نسخة لا تقل إجراماً عنه، هو الذي حلم بإنهاء الحروب الفظيعة لإنشاء فردوس. الفرق بين كنوت وثورفين هو المكانة، فتسمح مكانة كنوت بأن يتابع طريقه نحو الحكم بالعنف رغم الكوابيس التي تلاحقه مقنعاً نفسه بأن هذه هي الوسيلة الوحيدة، ونتذكر هنا لحظة تحول كنوت في الموسم الأول عندما رأى كل فظائع الحروب والغزوات ليتحدى الإله بإنهاء هذه المعاناة.
أما ثورفين فلا هدف له، والكوابيس تأكل روحه. وعلى اختلافهما، يُعتبر كل منهما صنو الآخر، فكلاهما من صنيعة آشيلاد الذي حول ثورفين من طفل رباه والده على المحبة إلى وحش، وحول الأمير كنوت الذي كان مُبعداً عن العنف والطمع في السلطة بفضل مربيه إلى وحش كذلك، إلا أن آشيلاد لم يختر كنوت ليضحي بنفسه لفتح الطريق أمامه عبثاً، فكنوت الذي عاش طفلاً مسالماً ولم ينشأ نشأة عنيفة قد يصير ملكاً مختلفاً. ومع أننا نرى أن تضحية آشيلاد قد ذهبت سدىً بينما يتحول كنوت إلى نسخة عن والده، نُغفل تفصيلاً هاماً هو الكوابيس. يبقى كنوت وحيداً بينما يُقتل أخوه، يتعذب بكوابيسه مثل ماكبث بطل شكسبير.
لم ير أي من الفايكنغ في الموسم الأول كوابيس كالتي رآها ثورفين. ولم يهلوس أحد كما هلوس كنوت، ذلك لأن كليهما تربيا في البداية، وقبل انخراطهما مع الفايكنغ تربية سلميّة، والكوابيس والهلوسة التي صوّرها استوديو MAPPA بشكل مذهل ومرعب، تدل على ضمير يملكه كل من الملك والعبد على الطريقة الشكسبيرية أيضاً.
 
الخلاص متمثلاً بالمسيحية
على عكس أبطال شكسبير، يجد ثورفين خلاصه في العمل اليومي، ورؤية من حوله وهم يقدرون الحياة وتفاصيلها البسيطة. وفكرياً، يسمع ثورفين الإنجيل لأول مرة عبر استراقه السمع على شخص يقرأه على والد سيده، ليسمع من إنجيل متى: "سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم...". بهذا، تكتمل رحلة ثورفين في المطهر بتغذية عقله بأفكار جديدة أسلوب حياته ثم على ثقافته.
 
من الجدير بالذكر أن أنمي Vinland Saga لا يقصد التبشير بالمسيحية في الموسم الأول ولا الثاني، رغم ظهورها بشكل مثير للاهتمام. إلا أن المسيحية في العصر الذي تدور فيه الأحداث كانت ما تزال تنتشر، لتأتي بفكر جديد مختلف عن عبادة أودين والموت لأجل فالهالا. وتاريخياً، بعيداً عن الأنمي، قال الملك كنوت الحقيقي إن المسيحية كانت العنصر الوحيد للتحضر في عالم الهمجية. لذا، كان حضور هذا الجانب مهماً لتطور الحكاية الخيالية المستوحاة من تاريخ حقيقي.يؤدي كل هذا إلى النهاية التي أغضبت كثيراً من معجبي الأنمي، عندما يتلقى ثورفين مائة ضربة من الفايكنغ حرس كنوت الذي ينوي مصادرة المزرعة، من دون أن يدافع عن نفسه، بل يتحملها فقط، معبراً بذلك عن الفكرة المسيحية: "من ضربك على خدك، فاعرض له الآخر"، من دون أن يقولها، وذلك كقبوله لرهان يُسمح له مقابله بمقابلة كنوت الذي صار ملكاً. يستطيع ثورفين لاحقاً، إقناع كنوت بترك المزرعة وشأنها، بعد مناظرة تحدد رؤيتهما لكيف يجب أن يكون لعالم، لتُختتم الحلقة قبل الأخيرة نهاية بدت غير مقنعة لكثيرين.
 
مع أن الحل في النهاية يبدو سحرياً ومقحماً، إلا أنه ليس كذلك في الحقيقة، فتطور شخصية ثورفين يسمح له بتلقي هذا الكم من الضربات من دون ردها بإصرار على حل المشكلة سلمياً. أما كنوت، فسيقبل بالطبع الاستماع إلى ثورفين الذي سبب له ندبة في وجهه في الموسم الأول، ولأنه يحترمه كمقاتل، ويحترم رجاله الذين خسروا الرهان أمام ثورفين.
أما بالنسبة لاقتناع كنوت بالانسحاب فلا يعود بالكامل لطلب ثورفين وأفكاره السلمية التي بدت وكأنها تقال للمرة الأولى في عصر الفايكنغ، إنما يعود بالأساس إلى شخصية كنوت التي تبحث في أعماقها عن مخلص مثل ثورفين يسد "الثغرات التي يخلفها" في طريقه لصناعة الفردوس على حد قوله.
على عكس ما يبدو ظاهرياً، لم يُصبح ثورفين ضعيفاً، فلا يمكن أن ننسى أن العصر الذي يعيش فيه هو عصر القوة والعنف، لذا فإن أي اتجاه مختلف، خصوصاً أنه جابه الملك به، هو قوة لم يعهدها هذا العصر، لذا بدلاً من نهاية أنمي تقليدية يقضي فيها البطل على الشرير، يجعل البطل ثورفين من الملك الملقب في التاريخ بكنوت العظيم كنوت العظيم. يسرد بعدها الراوي إجراءات كنوت كوقائع تاريخية حدثت بالفعل، وكأنها جاءت بفضل تأثير ثورفين.