نقاشات مُهمّة، في الأدب والنقد والفن تتحول الى نقاشات إنسانية
«Roter Himmel»: فيلم ذو بعد إنساني يكشف أهوال الفرد وأسئلته
حاول المخرج الألماني كريستيان بتزولد أن يراوغ المتلقّي، في النصف الأول من "سماء حمراء" (2023)، ليكسر أفق توقّعه، آخذاً إياه إلى تأويلات مغايرة تماماً لما ترسّخ في ذهنه، بعد أنْ أوهمه، للحظات طويلة، بأنّ القصة المحورية تدور حول علاقة بين فِليكس (لانغستن أوبَل) ذي الأصول الأفريقية، وليون (توماس شوبارت). تبيّن لاحقاً أنّ التأويل هذا خاطئ، وإنْ كان موجوداً في ثنايا الفيلم، لكنْ بطريقة أخرى وبتأويل أقلّ حدّة، أي بعيداً عن محورية العمل وقضيته الأساسية.
هذه الجزئية من أهم مرتكزات "سماء حمراء (Roter Himmel)" ومميزاته، لأنّ المتلقّي إذا توقّع التفاصيل، يتعالى على المخرج وفريق العمل، وبالتالي تسقط منطلقات التشويق والإثارة والتلاعب، ليصبح الفيلم عادياً، لا يضيف شيئاً إلى جماليات السينما ومحوريتها.
نال "سماء حمراء" جائزة "الدب الفضي ـ الجائزة الكبرى للجنة التحكيم" في الدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير/شباط 2023) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، إحدى الجوائز المهمة، ما يعكس، بدرجةٍ ما، قيمة الفيلم وأهميته. تجلّت هذه القيمة في جوانب عدّة، أفرزت مستويات جمالية وإنسانية، أهمها، فنياً، البناء/الشكل، الركن الذي أبرز فلسفة بتزولد وموهبته (كتب السيناريو أيضاً)، فضَمَن تجسيد رؤيته الفنية بشكل أوسع، مُبتعداً عن التعقيدات الكبيرة التي يفرزها تعدّد الفضاءات والشخصيات. فهو اختار فضاءً محدوداً جداً، تمثّل بمنزل صيفي يقع في غابة، قرب بحر البلطيق، تملكه عائلة فِليكس، الذي أراده مكاناً للعزلة، لإتمام مشروعه التصويري الفوتوغرافي، رفقة صديقه ليون، الذي وجد في المناسبة، هو أيضاً، فرصةً لاستكمال عمله الأدبي.
مشروع العزلة هذا يُخدَش سريعاً، بعد لقائهما في المنزل ضيفاً آخر، نادية (باولا بيير)، التي تستضيف فيه، بين حين وآخر، صديقها ديفيد (إينو تريبس)، وتُحدِث ضوضاء في الغرفة المجاورة، تُزعج ليون الذي يعمل على إكمال روايته الثانية، "نادي السندويش". لاحقاً، تُنسج علاقة بين الأصدقاء/الأعداء الأربعة، نتجت منها "حرائق" ("حريق" ترجمة إنكليزية لعنوان الفيلم) نفسية، خاصة حرائق الحبّ المشتعلة في قلب كلّ فرد بينهم، وفي الوقت نفسه، كانت حرائق حقيقية تشتعل في الغابة المجاورة، وتقترب منهم. لكنْ، ما كان في قلوبهم أكبر من أنْ يجعلهم يُحسّون بتلك الخطورة الكبيرة، رغم أنّ الرماد بدأ يتناثر عليهم، وهذا مؤشّر مهمّ على أنّ النار تقترب.
خلق كريستيان بتزولد شخصيات متنوّعة التوجّهات والاهتمامات، رغم قلّة عدد الأفراد، وألبس كلّ واحد منهم ما يليق به من اهتمامات: ليون كاتب مُعقّد ومضطرب، يخاف من النقد وردود فعل القرّاء، ومن ردّ فعل ناشره هلموت (مَتِيَاس براندت)، الذي جاءه إلى المنزل نفسه ليقدّم له ملاحظات حول مخطوط روايته تلك. فِليكس، الباحث عن صُوَر نابضة ومُفعمة بالروح لمشروعه، مُتسامح وعفوي وذو روح شفّافة، على عكس ليون، الذي تجمعه به صداقة. لنادية روح خفيفة وقلب كبير ووجه بشوش، ما جعل ليون يُغرم بها من أول نظرة. ديفيد المرح يعمل كمنقذ في الشاطئ.
يظهر الاختلاف بين تلك الشخصيات بعد لقائهم معاً على طاولة واحدة، ينضمّ إليها هلموت، الذي اكتشف في النقاش بين الجميع أنّ نادية تُعدّ دكتوراه في النقد، وتحفظ قصائد كثيرة، ما فاجأ ليون، الذي أعطاها مخطوط روايته لتقرأها، وعندما أخبرته رأيها السلبي ثارت ثائرته، وقال إنّ رأيها ليس نقداً، لأنّها بائعة بوظة لا أكثر. كما عرض فِليكس مشروعه الفني على هلموت، الذي أُعجِب به كثيراً، على عكس ليون الذي تجاهله ولم يتحمّس له. في تلك الجلسة، أُثيرت نقاشات كثيرة، مُهمّة وعميقة، في الأدب والنقد والفن، إلى نقاشات إنسانية بين ليون ونادية عن مفاهيم عدّة، بعد أنْ أخبرته بأنّ هلموت مُصابٌ بورم سرطاني، ويمرّ في فترة حرجة، وأنّها لم تكن طرفاً في رفضه روايته، بل العمل نفسه.
صوّر "سماء حمراء" مآسي الكوارث الطبيعية، وما تخلفه من مصائب على البشرية. بهذا، ضَمَن بتزولد أنْ يكون فيلمه ذا بُعدٍ إنساني، في ظلّ المتغيّرات المناخية في العالم. معالجته ولّدت إحساساً بعمق الأوجاع، لتسلّله إليها بطريقة غير مباشرة، ولتناوله إياها بذكاء فني. أي أنّه نقل مفهوم الكارثة الطبيعية، التي تعكسها الحرائق على الإنسان، من دون أنْ يكون الموضوع منطلقاً أساسياً له.
تعدّدت الأبعاد الأسلوبية التي أذابت مفهوم الوقت/الزمن، لأن صوغ السيناريو قويّ إلى درجة أنّ هذا المفهوم عكس معنى الترابط بين المُتلقي و"سماء حمراء"، الذي أثار أيضاً اهتمام الباحثين عن العزلة لتحقيق أحلامهم ورؤاهم وأمانيهم، إذْ وجدوا فيه ملاذاً وفضاءً مثالياً يبحثون عنه. بهذا، أصبحت العزلة ملجأ مثالياً من ضوضاء المدينة ومشاكلها غير المنتهية. إنّها فضاء نقي يضمن للمبدع/الباحث عن العزلة إنتاجاً نقيّاً صافياً وخالياً من العيوب. لكنْ، يتبيّن لاحقاً أنّ هذه الفضاءات لم تعد آمنة للإنسان، وبالتالي أسقط كريستيان بتزولد مفهوم المثالية والأمان، اللذين توفّرهما عادة الغابات والأرياف، والعزلة بمفهومها الأكثر فلسفةً.
رغم عمق "سماء حمراء" وفلسفته، لم يتخلّ كريستيان بتزولد عن المُعطى البصري المباشر الذي توفّره الكاميرا، فضبط، عبر المُصوّر هانس فْروم، إطارات جميلة للغاية، للغابات الممتدة، والحشائش المحيطة بالطرقات، والتعرّجات في الغابة، ومنظر البحر، ومناظر أخرى قوية تحمل دوافع، ظاهرة وخفية، تخدم الفيلم وتدعم أبعاده التأويلية، كتساقط الرماد على فناء المنزل. رغم مأساوية هذا المشهد، الذي يرمز إلى اقتراب الموت منهم، حَمَل بُعداً جمالياً بصرياً، إذْ أصبح كأنّه ثلج. إضافة إلى مَشاهد أخرى صنعت تكاملاً واضحاً بين الظاهر والباطن، وهذا رهان قوي نجح فيه بتزولد.