لوحة غنية عن الفنان الفرنسي المشهور ورفيقة دربه
«بونار، بيار ومارت».. شغف وحياة مليئة بالمرح
سِيَرُ الرسّامين تثير الفضول سينمائياً أكثر من أعمالهم. حياتهم غنيّة، وأحياناً شقيّة.
فيها ما يجعل أصحابها شخصيات سينمائية بامتياز، لتعقيدٍ أو خروجٍ عن مألوف، أو لتحلّيها بما لا تواجهه شخصية عادية، غير مهمومة بالخلق والإبداع.
عرض الفيلم في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان "كان" السينمائي، في قسم "كان برميير"، الذي أُطلق عام 2021، "للترحيب بأسماء كبيرة في السينما، لا تلبي أعمالهم، بالضرورة، معايير المسابقة"، كما في تعريفٍ به. تصعب معرفة معايير الاختيارات، وتفسير سبب وجود فيلمٍ هنا أو هناك. لكنْ، ما يمكن قوله إنّ "بونار، بيار ومارت" اتّسم ببساطة في رسمه لوحة غنية عن الفنان الفرنسي المشهور بيار بونار (1867 ـ 1947)، ومارت دو مِليني (1869 ـ 1942)، رفيقة دربه وأيقونة لوحات عدّة له، منها "عارية في البانيو" (1931).
استوحى بروفُوست النصّ من حقائق تاريخية، من دون اهتمام بسردٍ تاريخي لحياة متخمة بالأحداث، فتمحور فيلمه حول قصّتهما الشخصيّة، بتبسيط ما أمكن لأحداثها، وإعطاء صورة حيوية ومبهجة ومنعشة لزوجين غير عاديين، مع تركيز على مارت. كأنّ الفيلم لأجلها، في سعي إلى إثارة شخصية نسائية من ذاك العصر، مُلهمة وعاشقة ومتفرّدة في تضحيتها وخضوعها لشروط بونار بعدم الزواج، وإنجاب أطفال، في وقت كان ذلك يُعتَبر مخاطرة كبيرة.
مارس بونار الفنّ بأشكال عدّة: رسم وطبع ونحت وزخرفة. تصبغ حياته خفّة، توازي ما تعبر عنه لوحاته. خفّة، يعلن عنها الفيلم في لحظاته الأولى، وتماثل مواضيع لوحاته: ورق الشجر والزهور الملوّنة، السماء الزرقاء، المياه الرقراقة، أجنحة الفراشة في يوم ربيعي مشرق، لقاء عابر لفتاة تضجّ حياة وحيوية. حين التقى بونار (فانسان ماكانْي) مارت (سيسيل دو فرانس)، صدفة في الشارع، صَحَبها ليرسمها. هي عاملة بسيطة، تفتنه حيويتها، ويثير جسدها فيه رغبة الاكتشاف. حبّ وتجانس من اللقاء الأول، من دون أنْ يعرف عنها شيئاً، سوى أنّها من عائلة نبيلة إيطالية، افتقرت وغدر بها الزمان.
مارت كانت تكذب، فهي من أصول متواضعة شديدة الفقر. لكنّه لا يهتمّ بمدى صدق ادّعاءاتها. بقيا معاً نحو نصف قرن، ولم يعرف حقاً من هي. تعنيه شخصيتها، والحيوية والفانتازية اللتان صبغت بهما أسلوب عيشهما، وهذا الجسد الذي بات مصدر إلهامه، هو الذي امتلأت تصاويره بالجسد العاري. يتوقف الفيلم طويلاً، أحياناً أطول من اللازم، في مرحلته الأولى، عند اللقاء والرغبات واكتشاف الجسد والحبّ، وتكرار مشاهد في الطبيعة، بين سباحة في نهرٍ، وركضٍ في حقل. كلّ ما يتفتّق عنه ذهن مارت لعيش حياة حرّة في منزل منعزل في الطبيعة، على ضفاف نهر السين. كانا يعيشان اتّحادهما الجسدي والروحي. حبّ الفن والعلاقة الجسدية يغذيان إبداع بونار. كان يراقب جنونها وشغفها بالحياة، ويرسمها لتصبح جزءاً من كلّ لوحاته. كانا يستمتعان بشغفهما، بمعزل عن أجواء باريس نهاية القرن الـ19 (تحديداً عام 1895). من حين إلى آخر، يلتقيان بزملاء بونار، كمونيه (أندريه ماركون) وزوجته، في وليمة في الطبيعة.
شخصية مارت مرسومة لتعبّر تماماً عن جنوحٍ في الكذب والحبّ والمرح والنفور من حياة باريسية، تسود فيها علاقات اجتماعية، النفاق والقسوة والسخرية عناوينها، لا سيما إزاء شخص خارجي مثلها، يحمل معه أصله المتواضع، وفرض وجوده على فنان بارز، وأثّر في أعماله وحياته، رغم التفاوت الطبقي بينهما.
في هذا كلّه، يبدو الحديث عن رسومات بونار، أو الفن عامة، أو أي صعوبات يواجهها في عملية إبداعه، ثانوياً. يرسم مارت، والفيلم لوحة غنية له أكثر من أنْ يكون للوحاته، وحولها. هي ملهمته، وعليها تتركز نظراته العاشقة والفنانة. هي المسؤولة كذلك عن ترتيب أمور حياته، إلى أنْ تأتي إيحاءات أولية بضمور العلاقة، وبدء الخيانة. إنّه النضج، حين تخفت الرغبة في مرحلة ثانية من الفيلم. الخيانة إشارات توحي بها أحاديث مارت مع زوجة مونيه. لكنها تتأكّد حين عاش بونار قصة حبّ مع طالبته رينيه (ستاسي مارتان في أداء رائع). بدا السرد حينها أكثر جذباً وعمقاً، بما أضافته الحبيبة الجديدة من حضور مؤثّر بجاذبيته وبراءته وكشفه جوانب مهمة من شخصيته. عصفت تلك الشابة بحياته مع مارت، وكانت منعطفاً في علاقتهما، وفي منحى الفيلم، الذي تخلّص من التكرار، بدخول عنصر جديد، صعّد الأحداث إلى ذروة دراماتيكية مفاجئة، قرّبت أكثر من الشخصيات، وأثارت تعاطفاً مع الجميع بشكلٍ مدهش: الحبيبة والرسّام والعشيقة، في معضلة فرضها الحبّ، تحوّلت سريعاً إلى مأساة.
في روما، حيث اصطحبته رينيه ذات الأصول الإيطالية للزواج، ولإعادة اكتشاف أعمال الرسّام الإيطالي كارافاجيو (1571 ـ 1610) التي رأى فيها تزاوجاً مُقلقاً بين العتمة والضوء، وأجواء تحيل إلى الظلمات، اكتشف أنّه ليس في المكان المناسب، ولا مع الشخص المناسب. رينيه تجذبه إلى حياة معقّدة ورسومات درامية، وكلّ ما يتناقض مع شخصيته الباحثة عن البساطة والضوء والإشراق، التي عاشها مع مارت. إنّه رسام السعادة، وفنان الرقّة، الذي تثير لوحاته كلّ هذا الانتعاش والذكريات الجميلة البعيدة، حتى لو أثارت لوحة له شعوراً بالكآبة، كهذه المرأة التي تتكئ على النافذة، ووجهها يتأمّل. رغم هذا، تسود راحة البال دائماً أجواءه، كما كُتب عنه.
هذه المرحلة المضطربة من حياته أبرزها مارتان بروفوست بشكلٍ مؤثّر وساحر، مع رينيه، أو مارت مع نفسها حين اكتشفت في عزلة فرضتها على نفسها أثناء الهجران، واكتشف معها المجتمع الباريسي، فنانة تعبّر رسوماتها عن التيار الفطري. من لم يعرف هذه الشخصية، يفاجئه الفيلم بها، كما تفاجئه شخصية مارت، التي طالما ظهرت في رسوماته، التي تمنّى لها بونار أنْ تصمد: "آمل أنْ تصمد رسوماتي من دون أنْ تتشقّق. أودّ أنْ أصل، أمام الرسّامين الشباب، إلى عام 2000، بأجنحة الفراشة". وصل، ليس فقط برسوماته، بل بهذا الفيلم الجميل، الذي خلق أمكنة وأجواء شاعرية، بعيداً عن صخب باريس ومجتمعها الفني. تلك الأمكنة والأجواء المتناسبة مع هذه القصة العاطفية.