مشكلة الفيلم الأبرز غياب التجديد بكل أشكاله
«بيرد بوكس: برشلونة»... كائنات لا شكل لها، تدفع البشر للانتحار
مع صدور "بيرد بوكس" على منصة نتفليكس عام 2018، بدا أن التفاصيل المحيطة بالعمل تفوّقت على الفيلم نفسه، لناحية بقائها عالقة في الذاكرة.
فمع بدء عرض الشريط عام 2018، بعد أشهر قليلة من صدور A Quiet Place على المنصة نفسها، وجد العمل نفسه شاهداً رئيسياً على مرحلة أساسية، مرتبطة بالكشف عن أعداد المشاهدات على "نتفليكس"، بعدما كانت حتى وقتٍ قريب سريّة. كما ظهر تحدّ جديد على مواقع التواصل، مستوحى من الفيلم ويقوم على إغماض العينين للقيام بالمهام اليومية، ما اضطر "نتفليكس" للتحذير منه، بسبب الخطر على حياة المستخدمين.
وأمام خيبة أمل الجمهور والنقاد، يبدو غريباً اتجاه المنصة نحو إنتاج نسخة جديدة من الفيلم بعنوان "بيرد بوكس: برشلونة" يُصوّر في موقع جديد ومع طاقم جديد.
تدور أحداث "بيرد بوكس: برشلونة" في العاصمة الكتالونية التي يحمل الفيلم اسمها، مبتعداً بالكامل عن الولايات المتحدة وعالم النسخة الأولى. وبطريقة مشابهة للنسخة الأولى ولأعمال عدة تنتمي للنوع ذاته، نجد أنفسنا أمام مجموعة من الشخصيات التي تتفاوت في أهميتها، وملامحها، لترتكز على ثنائية والد/ة وابن/ة، وهما في هذه الحالة سيباستيان (ماريو كاساس) وابنته آنا (آليخاندرا هوارد).
وتغطي أحداث الفيلم، عبر المراوحة بين الحاضر والماضي، مرحلة بداية ظهور "الكائنات" ومن ثم انهيار المجتمع. وحتى هذه اللحظة، يبدو أنّ العمل الجديد يعالج قضية مألوفة: كائنات لا شكل لها، تدفع البشر للانتحار بمجرد فتح أعينهم في الخارج، عبر الضغط على رغباتهم ونقاط ضعفهم كالأشخاص الذين فقدوهم، مقابل مجموعة الناجين. إلّا أنّ "بيرد بوكس: برشلونة" سرعان ما يحاول الخروج بنقطة تميّزه، ليكشف باكراً أنّ سيباستيان عصي على تأثير "الكائنات" ويعمل مع مجموعة من أقرانه، الذين يقدسون الكائنات ونلمحهم في العمل الأول، على "مساعدة" باقي البشر عبر إجبارهم على فتح أعينهم والإقدام على الانتحار، فضلاً عن كون ابنته مجرد وهم بعدما تسببت المجموعة ذاتها بموتها.
وللحقيقة، فإنّ إزاحة الشخصية الرئيسية خارج قالب الناجي يبدو للوهلة الأولى اختلافاً في بيئة يفترض أن تكون مألوفة، قبل أن يتضح العكس بالطبع. فبعد أن يوقع سيباستيان بمجموعة من الأفراد ويقودهم إلى حتفهم، ليستطيع أن يجتمع بأسرته مجددًا كما تقول ابنته، ثمة ما يغير رأيه ويبدأ بتشكيل الصراع الداخلي لديه. وضمن شرطٍ كـ"الأبوكاليبس"، حيث ينهار المجتمع (أو ما كان متبقيًا منه قبل الكارثة بأي حال) تعود الأسرة للعب دور المركز.
يبدأ سيباستيان بإدراك خطأه، في اللحظة نفسها التي ندرك فيها أنّ هذا الفيلم الجديد من ذاك الفيلم السابق، وتصبح بعدها الأمور قابلة للتنبؤ...
يوضح هذا الاستعراض البسيط مشكلة الفيلم الأبرز: غياب التجديد بكل أشكاله. فما يبدأ بتحويرٍ قادر على إنتاج مقولات مغايرة، وعن الموت والحياة والمغزى، يصبح نهاية الأمر حكاية أخلاقية مبسطة عن الحزن وتأثيره علينا، وما يمكن أن يقدمه طاقم العمل متعدد الجنسيات يُختَزَل بردود أفعال وتعابير بلدٍ واحد لشخصيات تعجز عن لعب أيّ دورٍ يفوق تحريك الفيلم والدوران في فلك البطل، حتى لو كان ذلك في فيلمٍ ينطق بالإسبانية والألمانية والإنكليزية. وتصبح برشلونة بذلك مجرد موقعٍ يمكن لأي مشاهد أن يعرف أي أبوابه ستكون موصدة وأياها ستُفتَح في اللحظة الأخيرة لضخ الأدرينالين.
لا يمكن بالتالي توقع معجزةٍ من الفيلم الذي كتبه وأخرجه ديفيد وأليكس باستور، ولا حتى مساحة تُفرَد له في عالم الميمز والنكات كما حدث مع الفيلم الأول. وإن كانت مشاكل السلاسل أحيانًا متمثلة في عدم إخلاصها للأصل، فإنّ "بيرد بوكس: برشلونة" يظل مخلصًا للعمل الأصلي في فتوره ومماثلته لكتالوغ طويل من الأعمال الشبيهة وهو ما يعيدنا إلى السؤال الأساسي: لماذا؟تؤكد نشرات الأخبار في الفيلم أن الكارثة تضرب كل أصقاع الأرض، متخطية حدود الثقافة واللغة. فبعد كل شيء، يشرح لنا الفيلم كيف لكائناته أن تغيّر شكلها لتصل إلى أعماق كل نفس، على عكس "نتفليكس". فبعد الفترة التي استطاعت خلالها منصات البث تحقيق انتشارٍ عالمي، انكسرت الموجة وصارت معها الأولوية منصبة على الاحتفاظ بالمكاسب، وكان إنتاج المحتويات المحليّة واحدة من أهم سبلها.
ورغم أن الظاهرة ليست جديدة بأي شكل، وتمكن ملاحظتها مع أعمالٍ تسبق عصر البث، إلا أن التركيز عليها اليوم تعاظم. وهذا ما يكون قد ساهم في ظهور أعمالٍ مثل النسخة الكورية من "لا كاسا دي بابيل"، أو سلسلة "كريمينال" بنسخها البريطانية والفرنسية والإسبانية، بينما نرى خارج مملكة "نتفليكس"، أن "الموتى السائرين" أرسل، بطريقةٍ ما، أحد شخصياته الرئيسية في رحلة إلى باريس.
يربح المشاهد المحلي، في هذه الحالة، ما يفترض أن يمثل تحويراً مألوفاً لعينه عن عملٍ عالمي، بينما تستطيع الشركة المنتجة تحصين مواقعها وفق خطط مطاطة تلبي حاجة الأسواق المختلفة. إلا أن قول هذا قد يختلف عن تنفيذه، ففي حالة "بيرد بوكس"، يصعب الحديث عن "تجديدٍ" ما، أو خروج عن الخطة الأساسية لتلائم بيئة وموقعًا جديدين، إذا ما استثنينا اللقطات الجوية لبرشلونة وجنسيات الممثلين. فهل يكفي هذا الشكل من التجديد؟ ربما يكون للبعض، إلا أن كل المؤشرات تقول إنه ليس كذلك.إن الخروج من دائرة الإنتاج الأميركي ليست جغرافية وحسب، وترتبط بكل تفاصيل الإنتاج، وفي حالة الفيلم فإنها ظلت جاثمة على العمل إلى أن خرج بصورته هذه. وإزاء تقديس الملكيات الفكرية الذي يحكم منطق العملية حتى اللحظة، بالتركيز الهائل على الأعمال "الشعبية"، ستخف المخاطرة وتموت الفرص لإنتاج أعمال جديدة، إن كان للكلمة أي معنى.