عن وفاة طفل في زمن الحرب
«بينوكـــيو» قصــــة فيهـــا سمـــات الســـرد الشفــــهي
يعمل فنانو سينوغرافيا وتقنيو تحريك على تحويل نصّ سيناريو إلى فضاء مصغّر، إلى "ماكيت" (نماذج معمارية مجسّمة مصغّرة) يُلخّص المكان الذي يعيش فيه بينوكيو، حيث يُصوّره غييرمو دِلْ تورو في ورشة مُعقّدة للغاية، (بينوكيو بحسب غييرمو دِلْ تورو: سينما منحوتة باليد، 2022).
تظهر فوائد الطباعة ثلاثية الأبعاد. تتحرّك الدمى الآلية، ذات القلب التكنولوجي والوجه الخشبي، لتحكي للمتفرّجين قصتها. كان تحريك كاميرات بأحجام مختلفة في هذه السينوغرافيا عملاً صعباً. حسب أسلوب التصوير، تتحرك الكاميرا أو الشخصيات، أو الكاميرا والشخصيات معاً. هذه إحدى خصائص الإخراج في أفلام دِلْ تورو. لتجسيد هذا الأسلوب، شاهد مصمّمو الديكورات ومهندسو الضوء أفلامه السابقة، لابتكار ديكور يُذكّر المشاهد بأجواءٍ شاهدها سابقاً. هذا حرص على الوحدة الأسلوبية. ولهذا الجهد الفني والتقني، أرباحٌ على المدى الطويل.
أُطلق الفيلم التخييلي "بينوكيو من غييرمو دل تورو" Guillermo del Toro's Pinocchio، وحظي بتغطية إعلامية كبيرة. في ربع الساعة الأول، تُروى قصة مستقلّة عن وفاة الطفل في زمن الحرب. قصة فيها سمات السرد الشفهي. بعد أشهر، أطلق دِلْ تورو فيلمه الوثائقي عن كيف صنع فيلمه التخييلي. لم يحظَ الثاني بتغطية إعلامية كبيرة، لأنّه يقدّم معلومات معقّدة، وليس حكاية مسلّية عن صرصار حكيم. لكنْ، سيكون للفيلم الوثائقي وقعٌ كبير على نفوذ الفيلم التخييلي وتأثيره.
بعد مشاهدة الفيلم التخييلي ثانية، في ضوء وقائع الفيلم الوثائقي، يبدو الأول مذهلاً بشكل لا يصدَّق، لأنّ المُشاهد صار يعرف كم من الجهد بُذل في كلّ صورة. كلّ ثانية تحتاج إلى 24 صورة. هذا يتطلّب معرفة وموهبة وصنعة تقنية هائلة. كيف ذلك؟ كيف يصنع موقع الكاميرا المعنى؟
بعد مشاهدة الفيلم التخييلي ثانية، في ضوء وقائع الفيلم الوثائقي، يبدو الأول مذهلاً بشكل لا يصدَّق، لأنّ المُشاهد صار يعرف كم من الجهد بُذل في كلّ صورة. كلّ ثانية تحتاج إلى 24 صورة. هذا يتطلّب معرفة وموهبة وصنعة تقنية هائلة. كيف ذلك؟ كيف يصنع موقع الكاميرا المعنى؟
الجواب في وثائقي عن خطوات تقنية فنية لصنع فيلم، استغرق 15 عاماً. إنه استثمار على المدى الطويل في أسرار الصنعة الفنية السينمائية. هذه نظرة عن كواليس فنّ إنتاج الرسوم المتحركة. كواليس صنعة فنية سينمائية، لا تُدرَك فنياً ومالياً.
السينما مصنعٌ لإنتاج الأحلام الجماعية. مصنعٌ بالمعنيين الحرفي والمجازي. أين يتجلّى المصنعان في الوثائقي الذي عن منهج عمل دِلْ تورو؟ جرى العمل في معمل حقيقي لنحت الفضاءات والوجوه. صُنعَت ديكورات، مجسَّمة ومرسومة.
مبنى خشبي تلعب فيه الشخصيات، وفضاء تتحرّك فيه. جرى تصويرٌ يأخذ بعين الاعتبار تعقيدات المونتاج. في النهاية، تكشف أناقة اللقطات وعمقها موهبة صنّاعها وجهودهم. تعمل التقنية على إنتاج المعنى، وبناء عالم عجائبي يفيض معاني. يُنتظر من الإخراج تقديم سردٍ بلغة بصرية، تحتمل تأويلات عدّة.
هذا عالم عجائبي. وقع العجوز جيبوتو في حبّ الطفل الخشبي الذي نحته، ووقع النحات بغماليون في غرام المرأة التي نحتها. كما في أسطورة يونانية، ومسرحية "بغماليون" (1913) لجورج برنارد شو. يُقدَّم هذا العالم العجائبي بعين الصرصار، المُغني الكسول، وعدوّ النملة الكادحة. الصرصار شخصية إيجابية وقوية ومفسِّرة، في بنية سردية عميقة. لذلك، يسهل اقتباس سيرته في فيلم دمى متحركة من دون خيوط.
فيلم عن صرصار وطفل خشبي يريد أن يجري تقبّله كما هو، ويخاف التحذير الذي لم يطبّقه البشر قط: "إياك أنْ تكذب، وإلا سيطول أنفك".
في طفولتنا، كنا نحكّ أنوف بعضنا البعض لتحديد الكذّابين.
كان الصرصار راوياً لسيرة الغير. لتجسيد تغيّر البشر، صمَّم دِلْ تورو أقنعة مختلفة، ذات أحجام مختلفة، لكلّ دمية، لأنّ الوجوه الملساء لا تتغير تعابيرها. هكذا صار للتقنية أفق تعبيري. تظهر الأكاذيب مثل الأنف الطويل لجميع الناس، إلا صاحبها.
يوازن المخرج بين الواقعية والخيال. بالنسبة إليه، لا بُدّ من غلبة البعد الواقعي. للوصول إلى أدقّ وأصدق محاكاة ممكنة للحياة الواقعية، جرت موقعة الأحداث، زمنياً، بعد الحرب العالمية الأولى. الحرب تقتل وتُنجب الفاشية في إيطاليا. بهدف تقوية مصداقية الديكور، وسَّخ مساعدو المخرج الدمى بعد صنعها، لتبدو متورّطة في الحياة، بدلاً من أنْ تبدو مغسولة، خرجت من سوبرماركت.
من يشاهد الفيلم التخييلي، لا يرى هذا الجهد كلّه، بل ألعاباً صغيرة فقط. مع من يعمل المخرج على هذه الألعاب؟ يعمل مع نجمتي الصف الأول، كيت بلانشيت وتيلدا سوينتون. واضحٌ أنّ هذا فنّ عظيم، وإنْ بدا كألعاب صغيرة الحجم تتحرّك وتبدو في الشاشة ككائنات حقيقية. هذا فنّ عظيم يقوم به فنان.
ما معنى "سينمائي فنان"؟ جاءت "نتفليكس" بالإجابة من ورشة سينمائي معاصر مشهور، اسمه غييرمو دِلْ تورو. وثائقي عن خطوات تقنية فنية لصنع فيلم.
في الفن الحديث، لا تكفي الموهبة والمعرفة النظرية. هل الفن موهبة سحرية، أم عمل منظّم لوقت طويل؟ يجيب الشاعر والناقد التشكيلي شارل بودلير: "الفنّ نضال ثابت وعنيد ضد النمطية والثوابت" (بودلير ناقداً فنياً، زينات بيطار، دار الفارابي، بيروت، 1993، ص. 26). بهذين السبق والنضال، يُفترض بالفنان أنْ يسبق زمنه. هنا، لا يكفي امتلاك الأفكار. لا بُدّ من معرفة، ومن وسائل تقنية لتحويل الأفكار إلى صُور ونقود.
هذا جهد ضروري. الفنان الذي يحاول مراراً، ينجح. يُقال في الصيد: "لا تنجح الأسود في الصيد إلا في ربع محاولاتها"، أي إنّها تفشل في 75 في المائة من محاولاتها. رغم هذه النسبة الضئيلة للنجاح، لا تيأس الأسود من محاولات المطاردة والصيد.
تنجح محاولات قليلة في 15 عاماً من تحضير فيلم. ينطبق ذلك على الفنان. لا بُدّ من معرفة تقنية علمية وعملية لتجسيد المشاريع الفنية. بعد الموهبة والمثابرة الطويلة، ربما يبتسم الحظّ. ممنوعٌ قَلْب هذا الترتيب.