اتّسم بقدر كبير جداً من التشويق والإثارة والغموض
«تشريح سقوط»: مصنوع بحِرَفية لافتة للانتباه
منحت لجنة تحكيم المسابقة الرئيسية، في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان "كانّ" السينمائي، برئاسة السويدي روبن أوستلوند، "السعفة الذهبية" لـ"تشريح سقوط"، للفرنسية جوستين تريَّيَة (1978)، المشاركة في المسابقة/المهرجان نفسه للمرة الثانية، بعد "سيبيل" في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/أيار 2019). بفوزها هذا، تكون تريَّية المخرجة الثالثة التي تحصل على "السعفة"، بعد النيوزيلندية جاين كامبيون عن "البيانو" (1993)، والفرنسية جوليا دكورنو عن "تيتان" (2021).
بعيداً عن تخمينات وتساؤلات، هل يستحق "تشريح سقوط"، سينمائياً وفنياً، الجائزة الأرفع في مهرجان "كانّ"؟ مقارنةً مع أفلام المسابقة، يسهل نقدياً الإجابة، حتى مقارنة مع الأفلام الأخرى للمخرجات المتنافسات في المسابقة. إذْ لم تبرز من بينهن أي مخرجة قدّمت جديداً أو لافتاً للانتباه، باستثناء الإيطالية أليتشي رورفتشر في أحدث أفلامها وأقواها، "الوهم"، إحدى المُشَارَكات المهمة جداً في المسابقة، إجمالاً، رغم أنّه ليس سهلاً التفاعل معه أو تلقّيه جماهيرياً، مُقارنة بـ"تشريح سقوط"، الذي سيعجب كافة الأعمار والأذواق والمستويات.أما على مستوى أفلام المسابقة عامة، ومقارنة بغيره، جماليات فنية واشتغالات سينمائية وابتكارات وطروحات عميقة ومعالجات، فـ"الأيام الرائعة" للألماني فيم فيندرز، و"شجرة البلوط القديمة" للبريطاني كِن لوتش، و"أوراق الشجر المتساقطة" للفنلندي آكي كوريسماكي، و"منطقة الاهتمام" للبريطاني جوناثان غلايزر، و"عن الأعشاب الجافة" للتركي نوري بيلجي جيلان، أقوى وأكثر تألقاً وجدارة وأحقية بالجائزة. لكنّ فوز أحد هذه الأفلام كان سيذهب بالجوائز إلى مخرجين ذكور، باستثناء جائزة أفضل ممثلة، طبعاً.
هذا النقاش النقدي السريع لا يعني أنّ "تشريح سقوط" ليس في غير محله من الجائزة، أو أنّه سيئ سينمائياً، أو ليس فنياً. العكس تماماً. فالفيلم مصنوع بحِرَفية لافتة للانتباه، في مستوياته كلّها، لا سيما السيناريو (تريَّيَة وأرتور أراري) والتمثيل والإخراج. كما أنّه يتّسم بقدر كبير جداً من التشويق والإثارة والغموض، ومخاطبة الأذواق كلّها، ما يعني أنه سيحظى بإشادة وإقبال واسعين، عند عرضه الجماهيري. أيضاً، يصعب حصره في نوع أفلام الجريمة والتحري والتحقيقات، أو تشبيهه بالمسلسلات الرائجة والمشهورة في هذا النوع، المرتبط بالجرائم وتحليلها.
ساندرا فويتر (الألمانية ساندرا هولر) كاتبة ألمانية، تعيش مع زوجها الأديب صمويل ماليسكي (الفرنسي صمويل ثيس) وابنهما دانيل (ميلو ماتشادو غْرانر) ضعيف البصر (11 عاماً)، في شاليه جبلي في جبال "الألب" الفرنسية. ذات نهار، تحوم شكوك حولها، بعد "اتّهامها" بقتل زوجها، إثر سقوطه من النافذة العلوية للشاليه. هل قتلته ساندرا فعلاً؟ كيف؟ لماذا؟ الأسئلة مُحيّرة، تحاول الأحداث المُشوّقة الإجابة عنها، بين تحقيقات دقيقة وتفصيلية، وإعادة تمثيل الجريمة، ومحاكمات ساخنة مطوّلة، تنبش حياة ساندرا وماضيها وأسرارها، ومثليّتها الجنسية، وعلاقتها المُعقّدة والملتبسة بزوجها الراحل، ومعاناته الأخيرة بسبب صعوبات الكتابة، وغيرته الشديدة منها ومن نجاحها الأدبي، وبسبب سؤال عن المسؤول عن الحادث الذي تعرّض له ابنهما، وأفقده نصف بصره.يُكشف عن طبيعة هذه التعقيدات المتشابكة، تدريجياً، في محاكمة طويلة، تُحسم بشهادة الابن، بعد اكتشاف تسجيل صوتي لجدال محتدم يُسبِّب شجاراً بين ساندرا وزوجها، قبل أيام على وفاته، سجّله الراحل من دون علمها. رغم هذا، هناك صعوبة في حسم الموضوع، بسبب حقائق متعدّدة الطبقات، ودقيقة جداً، لا تساعد على اكتشاف لغز السقوط، أو أنّ هناك جريمة أم لا. هذا كلّه من دون الانزلاق إلى نوع الأفلام البوليسية أو الجريمة أو التحري، بكل ما تحمله من خفة وتكرار وتشابه في الوقائع والملابسات والأحداث.
حتى انتهاء المحاكمة، تجد ساندرا صعوبة بالغة في الحفاظ على حياتها وفنها وحبها لابنها، بعيداً عما جرى، رغم شخصيتها الجريئة وصلابتها وتوازنها النفسي، ورغم كونها عقلانية إلى أقصى درجة. تركيبة نسائية صعبة جداً، أدّتها ساندرا هولر بإقناعٍ وصدق وتمكّن، تستحق بفضلها جائزة أفضل ممثلة، أو عن دورها، الرائع أيضاً، في "منطقة الاهتمام" لغلايزر. لكنّ قواعد منح "السعفة الذهبية" حالت دون منحها الجائزة، التي نالتها التركية مارفي ديزداش عن دور نوراي، في رائعة جيلان، "عن الأعشاب الجافة".
لا يتوقف "تشريح سقوط" عند تناوله، اجتماعياً ونفسياً وإنسانياً مُكثّفاً وقوياً وصادقاً، ديناميكيات الأزواج والحياة الزوجية وتعقيداتها العميقة المربكة؛ إذْ يغوص أكثر في حياة الزوجين، طارحاً أسئلة عدّة عن علاقة الرجل بالمرأة، وما يعنيه مفهوم الأسرة.
إذا كانت فكرته الأصلية وعنوانه محاولة للتوصّل إلى كيفية السقوط، وتشريح ما إذا كان السقوط جريمة أم لا، يناقش فيلم تريَّية، بعمق أقوى وفي مستويات عدّة، السقوط العاطفي والجسدي والنفسي بين الزوجين، أساساً. أحد أهم الأمور وأدقّها، فنياً أيضاً، وما يتصل بعلاقة الزوجين، حقيقة أنهما لا يتحدّثان اللغة نفسها، فهما يتواصلان بلغة ثالثة، الإنكليزية، في محاولة لخلق أرضية يلتقيان عليها. هذا يُفسر أسباب عدم تحدّث ساندرا اللغة الفرنسية طوال الوقت. كما يطرح ما يعنيه أنْ تكون أجنبياً قيد المحاكمة في فرنسا، أي في بلد ليس بلدك، وبلغة غير لغتك الأم. حقيقة أنّ ساندرا ألمانية تتحدّث الإنكليزية، وتحاول التحدّث بفرنسية لا تجيدها، تخلق تضارباً وغموضاً مرتبطين بطريقة تعبيرها عن نفسها ومشاعرها، ما يؤدّي إلى مزيد من الارتباك والحيرة بخصوص شخصيتها وهويتها، وصدقها أساساً.