عبدالله بن زايد يستقبل نائب رئيس مجلس الوزراء وزير خارجية تركمانستان
يُجسّد فوضى الحياة بتنويعات سردية مذهلة
«لا يزال هناك غدٌ»: مقاربة الواقع الايطالي بأسلوب سينمائي خاص
تُنجر الممثلة والمخرجة الإيطالية باولا كورتيليزي، في "لا يزال هناك غدٌ" (2023)، إغواء مقاربة الواقع الإيطالي، بالأسلوب السينمائي الخاص الذي عُرفت به سينما بلدها، وأوصلها في النهاية إلى تأسيس مدرستها: الواقعية الإيطالية الجديدة. الاختيار، بما ينطوي عليه من مغامرة، ليس مشكلة، فالمشكلة الحقيقية تكمن في تطبيقه، وفي الحفاظ على روح أسلوبٍ سينمائي وجماليّاته، تشبه (الروح) إيطاليا نفسها، التي تجمع بين الفوضى والإبداع الخلاّق في آنٍ واحد.
الأسود والأبيض يقاربان زمناً ماضياً، وأحداثه تجري في مدينة روما، عشية نهاية الحرب العالمية الثانية. المشهد العام للمدينة كئيب. يغمر سكّانها إحساسٌ بنهاية عهد من تاريخها السياسي ـ العسكري، وحواجز الجيش الأميركي في شوارعها الرئيسية تُكرّسه.
يجعل النصُّ (سيناريو فوريو أندريوتي وجوليا كاليندا، بمشاركة كورتيليزي) المناخَ العام إطاراً تتوسّطه قصص من الحياة اليومية، أكثر ما يهتمّ بها ويشتغل على تقليصها في حدود قصة ديليا (تؤدّي كورتيليزي نفسها الدورَ ببراعة لافتة للانتباه): امرأة تستيقظ صباحاً، وتعدّ الفطور لأطفالها وزوجها، وتعتني بوالده المريض. بعد ذلك، تُسرع إلى عملها (مساعدة ممرّضة)، وتكسب مالاً إضافياً من حياكة الملابس وتصليح المظلاّت وغسل الملابس ونشرها. من بيتها، تظهر تأثيرات الخارج على سلوك زوجها إيفانو (فالِريو ماستاندريا)، الكسول والعنيف، الذي لا يرى في زوجته إلا امرأةً فاشلة وغير قادرة على إنجاز أي عمل منزلي، مهما كان بسيطاً. وبإحساس ذكوري عالٍ لديه، يُقابل أي ردّ فعل منها على تصرّفاته بتعنيف جسدي ولفظي أمام أطفالها الثلاثة، وعلى مسمع جيرانها.
لإبراز موهبتها الإخراجية في فيلمها الأول، وللتميّز عن صُنّاع مرحلة الواقعية الإيطالية الكبار، تضفي كورتيليزي، على غير المتوقّع، عنصراً كوميدياً ساخراً على مسارات حياة بطلتها المُعنّفة، جسدياً ونفسياً. كلّ مشهد تعنيف يتبعه آخر متخيّل، يظهر فيه الزوجان يتراقصان على أنغام الموسيقى، ويُغنّيان أغاني رومانسية جميلة، تتداخل مع ألحان "هيب هوب" معاصرة، ومع أغان رومانسية كلاسيكية، تتناقض كلماتها مع الفعل العنيف، الصادم ببشاعته.
بهذا الأسلوب، المتحقّق بفضل موسيقى تصويرية للمؤلّف ـ الملحّن لِلِ ماركيتيلّي، تُكسَر حدّة سردٍ لا يُراد له البقاء أسير مقاربة تقليدية لمرحلة معقّدة من تاريخ إيطاليا، وجدت المرأةُ نفسَها فيها ضحية ثقافة ذكورية، وتبعات حرب خاسرة أفقرت الناس، وضاعفت سوء أحوال النساء. الفراغ العاطفي، الذي تعانيه ديليا، يُكسَر بعلاقة عابرة غير مكتملة مع جندي أميركي أسود، يقف عند الحاجز القريب من منزلها. اللغة تعيق تواصلهما، لكنْ هناك ما يشي بأنّ شجاعة التخلّص من وحشية الزوج كامنة فيها، وتُغذّى بتآزر نسوي يوحي بأنّ أمراً سيحدث، لا يعرف أحدٌ ماهيّته وكيفية حدوثه.
مهارة الكتابة تعزّز ذاك الإحساس، وتجعل من قصة ابنتها، الصبية مارتشيلاّ (رومانا ماجيورا فِرْغانو)، مع حبيبها جوليو موريتي (فرانتشيسكو تشينتورامي)، ابن العائلة الميسورة حديثة النعمة، المستفيدة من فساد الساسة، مدخلاً إليه. طالما رأت الصبية في صبر والدتها على جور والدها ضعفاً فيها، لا تريد تكراره مع حبيبها. ترتيبات زواجها تفضح تعالياً على عائلتها الفقيرة، ومن بعيد تشعر الأم أنّ الزوج المستقبليّ لابنتها لن يكون أفضل من زوجها، فتصرّفاته وغطرسته تشي بالميول الذكورية السائدة نفسها. بدهاء وذكاء، تفسد الأم مشروع الزواج، ومن دون تردّد، تعيد علاقتها بحبيبها الأول، وتقرّر الهروب معه إلى الشمال الإيطالي الغني والواعد بازدهار مُنتظر، بعد خراب طويل.
مرة أخرى، تكسر كورتيليزي المتوقَّع، وتذهب به إلى مسار آخر، يعيد للتاريخ حضوره. لم يكن هدف خروج المرأة سرّاً من بيتها الذهاب مع حبيبها، بل توجّهاً إلى صناديق الاقتراع. وسط جموع النساء، تنحشر الزوجة وتحتمي بقوّة الوسط المنتمية إليه. في ذلك العام (1946)، تكسب الإيطالية حقّ التصويت، وتنجح في إيصال من تريده من السياسيين إلى الحكم.
هكذا تُنهي كورتيليزي مسار "لا يزال هناك غدٌ"، المذهل في كتابته المتأمّلة في حال المرأة الإيطالية، باشتغال سينمائيّ، كلّ لقطة فيه تقطر حلاوةً، إلى درجة يبدو فيها أنّ طموحها في الاقتراب عبرها من كبار صُنّاع المدرسة الواقعية الإيطالية الجديدة ليس وهماً، بل استعادة وتذكير بإنجازاتهم، وبالموروث السينمائي الذي تركوه مُشرعاً أمام الراغبين في الانتماء إليه، من موهوبين ومُلّمين بأفكار مدرستهم السينمائية، التي عبّرت بإخلاص عن مفهوم سياسي ـ اجتماعي نادر، يُجسّد فوضى الحياة الإيطالية بتنويعات سردية مذهلة، ويُجلي في الوقت نفسه قوّة الإبداع الكامنة فيها.