عمل يخرج عن الثورة السينمائية التي حققها مخرجون كبار

«مانغو» فيلم دانماركي بسيط بلمسة فنية خاصة

 «مانغو» فيلم دانماركي بسيط بلمسة فنية خاصة

"مانغو" فيلم بسيط ومسلٍ، ولا يمكن نعته بغير ذلك، لأنه على مدى (96 دقيقة)، يظل متأرجحاً بين السطحية والخفة، وبين محاولة إضفاء طابع "غرائبي" على الأحداث تمنحه لمسة فنية خاصة.

الفيلم من بطولة جوزفين بارك، والممثل العراقي دار سليم، وجوزفين هويبييرغ، ويتحدث عن رحلة عمل تقوم بها مديرة فندق لاركي (جوزفين بارك) إلى مالقة في إسبانيا، بإلحاح من مديرتها التي تسعى للاستيلاء على مزرعة مانغو يملكها أليكس (دار سليم) لتطوير المكان إلى فندق ومنتجع سياحي، نظراً للإطلالة الساحرة للمزرعة التي يصر أليكس على تسميتها بستاناً، ويرفض كل العروض والإغراءات لبيعها، لارتباطها بذكريات شخصية تراجيدية.

إيقاع باتجاهين
تصحب لاركي في رحلتها ابنتها المراهقة أغنيس (جوزفين هويبييرغ)، حيث يسير الإيقاع الدرامي في اتجاهين متوازيين، الأول إنجاز الصفقة، وما يستتبعه من مفاجآت، والثاني ترميم العلاقة المتآكلة بين الأم وابنتها.
توفرت للفيلم عناصر نجاح لم يغتنمها المخرج في الشكل المأمول، وأهدر فرصة لإنتاج متعة بصرية ذات إيقاع فلسفي يغوص في قلب المعضلة الرأسمالية المعاصرة التي تستخف بالميراث الشخصي والعاطفي، وبذاكرة الماضي، وببراءة الأماكن الطبيعية، وببساطة الالتحام بالبيئة وحمايتها من التلوث والفوضى البنيانية، وتكترث فقط بجني المال وتضخيم الأرباح، مهما كانت العواقب.
بعد أن تتوجه لاركي إلى بستان المانغو، وتقابل صاحبه أليكس، لا تنشأ بينهما على الفور مشاعر متنامية، بل يسود النفور بسبب كراهية لاركي لعصير المانغو ذي المذاق الشديد الحلاوة، ثم بسبب ارتياب مالك البستان من زيارة السيدة وابنتها للمنطقة.
 بيد أنّ علاقة الابنة  أغنيس بقريبة أليكس المجايلة لها في العمر خلق بينهما كيمياء سريعة، حيث كان هذا التواصل بمثابة كابح يمنع انزلاق علاقة لاركي بأليكس إلى العداء.
توترات لا تحلّق بعيداً
في غضون هذه التوترات الفنية والنفسية التي تعلو السطح قليلاً، ولا تحلق بعيداً، تأخذ الأحداث تستجيب ب"سهولة" لتوقعات المشاهد، فيتحول الفيلم إلى نسخة مكررة عشرات المرات عن أحداث شاهدها في أفلام، وحبكات طفولية، ومصادفات منزوعة الخيال تروم نسج علاقة عاطفية عميقة بخيوط هشة. وهذا يتحمله بدرجة أساسية المخرج مهدي أفاز الذي لم يطور من كتابة ميلاد شوارز أفاز، فغرق الفيلم في كليشيهات قادت إلى نتائج متوقعة بنسبة كبيرة جداً، وهذا أكثر ما يفسد المتعة البصرية، ويكدر مزاج المشاهدة السينمائية.
وكما هي عادة الأفلام الشبيهة، تحدث عثرة مفتعلة تطيح بنمو العلاقة العاطفية الناضجة بسرعة وبهوت بين مالك البستان و"الوسيطة العقارية"، فتغادر وابنتها إلى بلدهما، وتبلغ مديرتها بفشل "الخطة"، فتفاجئها المديرة بأنّ أليكس وافق على البيع، خصوصاً وأنه يرزح تحت نير ديون باهظة. لا توافق لاركي على الخطة، لأنها استشعرت (من دون أن يسهب المخرج في ذلك) خلو الفكرة برمتها من الروح الأخلاقية، فيكون مصيرها الفصل من عملها بقرار من المديرة التي يقدمها الفيلم بطريقة كاريكاتورية نمطية تتوخى جلب الإدانة لها وشيطنتها.تعود لاركي وابنتها إلى بستان المانغو، فتقدم مالياً ضخماً يساعده على سد ديونه والاحتفاظ بالبستان، وتصلح ما أفسدته غلبة المصالح، وتتقرب أكثر من أليكس الذي تنقلب ممانعته حباً واقتراناً ومعانقة فاترة من جانب أليكس الذي يُشعر المشاهد (لأسباب مجهولة وغير فنية) بعدم غرامه بالقُبل!

أخطاء مجانية
كان يمكن للأخطاء المجانية التي اقترفها الفيلم أن تغدو أكثر فداحة، لولا "التضحيات" التي قام بها الممثل ذو الأصول العراقية دار سليم، الذي تميز بثبات متنام في أداء شخصية مكرورة، لكنه انتشلها بإقناعه التمثيلي من التفكك والبهوت. أما الممثلة جوزفين بارك فحاولت، بما أوتيت من قوة وبراعة، شد أزر السيناريو المتهالك، فبذلت مجهوداً مضاعفاً أنقذت بفضله الفيلم من السقوط.
المفارقة أنّ هذا الفيلم دنماركي، لكنه منقطع الصلة بالسينما الدنماركية التي قدمت روائع سينمائية حظيت بالتكريم والإشادة والفوز في محافل دولية، لاسيما بعد إطلاق حركة Dogme 95 عام 1995 والتي ثوّرت السينما الدنماركية، وقادها المخرجان لارس فون ترير، وتوماس فينتربيرغ، اللذان حرصا على أن تكون الأفلام التي تمول غالبيتها الحكومة مختلفة عن تلك التي تُنتج في هوليوود والمهووسة في نماذجها العديدة بالآكشن.

تراث السينما الدنماركية
حرصت السينما الدنماركية منذ ذلك الحين (مستندة إلى إرث عميق) على اعتماد التقشف في المؤثرات والتصوير المصنّع في الاستوديو، وخرجت إلى الطبيعة بكاميرات محمولة، وبلا بهرجات بصرية.
 كان الهم الأكبر لدى رواد هذه الثورة، ومَن تبعهم الإخلاص للفكرة وتعميقها والحفر فيها حتى قاع القاع، من خلال منظور يقرأ تحولات النفس الإنسانية واضطرابها وقلقها الفوّار.
الأمثلة التي استلهمت هذه الرؤى كثيرة. ويكفي أن نذكر عدة أفلام نقشت في ذاكرة الفن السابع، مثل In a Better World (2010)، The Hunt (2012)، A Hijacking (2012)، A Royal Affair (2012)، Land of Mine (2015)، A Royal Affair (2015)، The Guilty (2018)، Another Round (2020).
ولا يمكن، في خضم ذلك، نسيان الفيلم الدنماركي العبقري "الفتاة ذات الإبرة" (The Girl With The Needle) الذي أخرجه السويدي ماغنوس فون هورن، ونافس على أوسكار أفضل فيلم أجنبي العام الماضي (وكان يستحقها بجدارة كاملة)، ويعد واحدة من علامات السينما الأوروبية التي تتوهج في الذاكرة بقوة الإبرة وصبرها ودأبها المتطلع إلى الكمال.
ورغم أنّ الإبرة تجرح وتؤلم وتُسيل الدم، لكنها تبقى أكثر بلاغة من حلاوة المانغو التي جاءت بطعم العلقم.