عبدالله بن زايد يستقبل نائب رئيس مجلس الوزراء وزير خارجية تركمانستان
شخصيتها وحضورها في ميونخ، تحمل رمزية خاصة
أديل... البافارية الشقراء التي تسعى للظهور بمظهر أكثر تقليدية
ثمّة ما يجمع المدينة الألمانية ميونخ، عاصمة ولاية بافاريا الجنوبية، ونجمة غناء البوب البريطانية، أديل آدكينز (36 عاماً) المعروفة باسمها الأول، أديل (Adele)؛ إذ اختارت الأخيرة المدينة لتكون محطة انطلاقة جولتها الأوروبية على امتداد شهر أغسطس/آب الماضي، ليس من دون دلالة تستحق التأمل.
أقيم الحفل على أرض منشأة ميونخ للمعارض (Messe München)، وهي واحد من بين أكبر الميادين في العالم المخصصة لتنظيم المعارض الدولية والتظاهرات الكبرى والعروض الحية. اختير للحفل الجزء الخارجي المفتوح الذي يمتد لمساحة 400 ألف متر مربع، وتصل سعته إلى قرابة 80 ألف متفرّج. ضماناً لمشاهدة حية تحظى بها جموع الحاضرين كافة، نُصِبت في الواجهة المنصة شاشات تلفزيونية عملاقة، بثّت مشهد الخشبة وعليها الفنانة والفرقة الموسيقية تؤدي مجموعة من أشهر أغانيها، إضافةً إلى الساحر المبهر من المؤثرات البصرية.
لطالما يشيع بين الألمان النظر إلى ولاية بافاريا ومدينة ميونخ على أنها إقليم العزّ والجاه وأصالة القيم الأرستقراطية والبرجوازية الأكثر محافظةً اجتماعياً وثقافياً، وحتى دينياً. فهي إضافة إلى كونها المدينة الأكثر كلفة للعيش في ألمانيا، لا تزال تحمل بعضاً من إرثٍ عتيقٍ مما يُعرف بعهد الإمبراطورية الرومانية المقدسة (1392-1505) ذي التراث المسيحي الكاثوليكي والسلالة الممتدة لأجيال من أباطرة وملوك وأمراء دوقيّات.
ذلك على الرغم من أن الإقليم الجنوبي ذا الطبيعة الجبلية الساحرة والوعرة، لم يتحوّل في الأزمنة الحديثة إلى معين غِنى وبحبوحة اقتصادية في أوروبا والعالم، إلا بعد أن بُنيت فيه صروح صناعة السيارات الألمانية الكبرى في الربع الثاني من القرن العشرين، فانتشلت اقتصاده من قطاع زراعيّ قروسطي مُحتضر، بات غير قادرٍ على منافسة الماكينة الزراعية، التي أطلقتها الثورة الصناعية في الأراضي السهلية الواسعة من الأقاليم الوسطى والشمالية.
هناك، في الوسط والشمال أخذت الطبقة الوسطى والعاملة منذ نهاية القرن التاسع عشر تتصدّر المشهد صابغةً ألمانيا بطابع الدولة الوطنية الحديثة ذات الأغلبية البروتستانية والتوجّه العلماني المتبنّي لاقتصاد السوق وقيم دولة الرفاه بهواها الليبرالي ومظهرها الثقافي والاجتماعي الأقل محافظة والأكثر تقشّفاً. لتبقى ولاية بافاريا، وعاصمتها ميونخ، في الوعي الجمعي الألماني منذئذ، إضافةً إلى كونها موطناً أصلياً لمشروب البيرة الوطني، مخيالاً من وحي الماضي والأساطير الجرمانية القديمة وواجهةً فارهة تعكس ذائقة النخبة الاقتصادية مُحدثة النعمة (السنوب) الأكثر تبرّجاً وتبجّحاً.
من هنا، فإن شخصية أديل الفنية، أي البيرسونا، بحضورها في ميونخ، لها أن تحمل رمزية خاصة؛ إذ تتمع النجمة البريطانية بسمات أوروبية خالصة بيضاء وشقراء، كذلك فإنها تسعى من بين نجمات البوب للظهور بمظهر أكثر تقليدية، يكاد يمكن أن يوصف بفيكتوريّة جديدة (Neo-Victorian) نسبة إلى عهد الملكة البريطانية فيكتوريا (1837-1901) الذي راجت خلاله بين أفراد الطبقة البرجوازية عادات الاحتشام والانضباط، سواء لجهة الملبس أو المسلك. وعليه، باتت إلى اليوم، الحقبة المرجع بالنسبة إلى التيار المحافظ في بريطانيا والغرب بصورة أعمّ.
تلك الصلة الرمزية كانت مراسلة القناة الألمانية الثالثة 3sat الصحافية هايكه بترسون قد أوحت بها في معرضِ تقرير أعدّته لبرنامج زمن الثقافة (Kulturzeit) استبق الجولة الفنية المرتقبة. حاورت فيه أديل، التي أطلّت من خلاله وقد تأنّقت على غرار واحدة من سيّدات الأسرة الملكية البريطانية، وتحدّثت كما تتحدث دوقات إنكلترا، تصف معاناتها مع الشهرة جرّاء كونها شخصية تلاحقها الأضواء، وعن سعيها المضني لتحقيق التوازن ما بين حياتها الخاصة الأسريّة والعامة الفنيّة، ما حدا بيترسون إلى أن تختم تقريرها معلّقةً: "صيفُ أديل في ميونخ، صيفُ الشهرة، والحُسْن والحنين إلى الماضي".
حتى أديل نفسها، أو ربما أحد وكلائها ومنتجيها، تبدو كأنها قد التقطت الصلة الرمزية تلك، فقد نشرت في 8 مايو/أيار الماضي صورة على صفحتها على "إنستغرام"، تظهر فيها مرتدية ما يشبه الزيّ الفلكلوري لإقليم بافاريا المعروف باسم "دريندل" (Drindl) تحمل في يد كأسَ بيرة عملاقة، واليد الأخرى تمسك بصحن جبن، فيما اصطفت حوله كعكات البريتزل؛ إذ تُعدّ جميعها من بين التنميطات الأشد سياحيّةً التي تشتهر بها تلك البقعة من ألمانيا.
أثارت الصورة جدلاً واسعاً على شكل عاصفة من التعليقات، منها الساخر ومنها الغاضب. أما السبب، فهو أن الصورة من إخراج تطبيقات الذكاء الصناعي التوليدي المتوافرة في الإنترنت، الأمر الذي جعلها مشوبةً بمُغالطات وتناقضات بادية للعيان، إذ لم تكن الأزياء بافاريّة خالصة، بل مسخاً رقمياً جمع في بعض تفاصيله بين نسيج القماش ووريقات الخس.
أما التنميط الآخر والأعمق من الناحية الثقافية، فهو ظهور النجمة البريطانية في صورة حسناء ريفية شقراء، تقليدية، تحمل نوستالجيا الماضي الأوروبي الصافي إلى الشريحة العمرية من أبناء جيلها التي تُشكّل حالياً الأغلبية في جمهورها، ممن كبرن وأنجبن وأنتجن طبقة وسطى أوروبيّة غربية بيضاء، ما انفكّت تميل جهة يمين الطيف السياسي، آملةً إعادة إحياء الأُصر والروابط الأسرية المتينة وإرساء مزيدٍ من مظاهر العيش المحافظ.من منظور كهذا، تبدو ميونخ بالنسبة إلى ألمانيا، مثل لندن بالنسبة إلى المملكة المتحدة. هي من جهة حاضرة اقتصادية ما زالت تعيش قدراً نسبياً من الازدهار وتشكّل مركزاً مالياً وتجارياً حيوياً، ومن جهة أخرى رمزٌ تاريخيٌّ لمجد ماضٍ أوروبيٍّ غابر، يدغدغ مشاعر الطبقة الوسطى الأوروبية من جيل الميلينيالز، الذين باتوا اليوم يُعايشون قارةً تشيخ وفي ذات الوقت، تتبدّل ديمغرافياً وثقافياً بتسارع غير مسبوق، فيبحثون لهم عن هوية جديدة في نوستالجيا الصور، كصورة أديل في ثوب البريندل، ليكون أشد ما فيها من تعبير، هو ذاك المسخ الرقمي الذي ولّده الذكاء الاصطناعي.