اتفاق «بلا سلام».. واشنطن وبكين تهدّئان حرب المعادن «مؤقتاً»

اتفاق «بلا سلام».. واشنطن وبكين تهدّئان حرب المعادن «مؤقتاً»


قال خبراء إن إعلان توصل واشنطن وبكين إلى اتفاق بشأن إمدادات المعادن النادرة، لا يمثل مجرد خطوة اقتصادية، بل يعد تحوّلًا جيوسياسيًا عميقًا في قلب الحرب التجارية والتكنولوجية بين القوتين الأكبر في العالم.
وهذه المعادن، التي تدخل في صناعات الطائرات، والمركبات الكهربائية، وشبكات الاتصالات، والرقائق الدقيقة، أصبحت أحد أخطر أسلحة النفوذ الإستراتيجي في القرن الحادي والعشرين.
ورغم أجواء المصالحة العلنية، يرى محللون أن ما حدث ليس “سلامًا اقتصاديًا”، بل هدنة مؤقتة تخفي سباقًا محمومًا للسيطرة على مستقبل التكنولوجيا، والاقتصاد العالمي.
وأعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الخميس، توصل واشنطن وبكين إلى اتفاق جديد لإمدادات المعادن النادرة، خلال لقائه مع الرئيس الصيني شي جينبينغ.

«نفط القرن الجديد»
وقال برونو تيرتريه، نائب مدير مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية والمتخصص في الجغرافيا السياسية والأمن الدولي، إن “الاتفاق الجديد لا يمكن فهمه إلا في ضوء صراع طويل الأمد على التكنولوجيا الإستراتيجية».
وأوضح تيرتريه لـ”إرم نيوز”، أن المعادن النادرة اليوم أشبه بـ”نفط القرن الجديد”، مشيرًا إلى أن الصين لا تنافس الولايات المتحدة في التجارة فقط، بل في القدرة على قيادة الثورة الصناعية المقبلة: الذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيرة، وأشباه الموصلات، والسيارات الكهربائية.
وأضاف أن “الصين تسيطر على ما يقارب 60% من الإنتاج العالمي للمعادن النادرة، وأكثر من 85% من عمليات التكرير. الولايات المتحدة يمكنها امتلاك المناجم، لكنها لا تستطيع تحويل المعدن الخام إلى مادة قابلة للاستخدام الصناعي دون الصين. وهذه نقطة ضعف إستراتيجية هائلة».
وأكد تيرتريه أن بكين ترسل رسالة مزدوجة: “يمكننا التعاون اقتصاديًا، لكننا نملك القدرة على قطع الإمدادات في أي لحظة”، ما يجعل الاتفاق الحالي “هدنة اضطرارية” أكثر من كونه “تفاهمًا طويل الأمد».
وتابع: “مستقبل العلاقة يعتمد على سباق الابتكار، لا على الرسوم الجمركية، ومن يفوز بالمعادن النادرة يفوز بالمستقبل التكنولوجي».
بدورها، قالت فرانسواز نيكولا، المتخصصة في الاقتصاد والتجارة الدولية والعلاقات الآسيوية الأوروبية، إن “الاتفاق يحمل أبعادًا سياسية داخلية لا تقل أهمية عن الجوانب الاقتصادية”، موضحة أن “ترامب يحتاج إلى رسالة قوة إلى ناخبيه، فيما تحتاج بكين إلى مخرج اقتصادي دون أن تظهر بمظهر المتراجع».

سنوات حاسمة
وأضافت نيكولا  لـ”إرم نيوز”، أن “الصين تعرف أن العالم يسير نحو فصل تكنولوجي، ولذلك تريد أن تشتري الوقت. المعادن النادرة تمنحها قدرة تفاوضية، لكنها أيضًا خطر إستراتيجي طويل المدى، لأن الولايات المتحدة وأوروبا واليابان تُسرّع، الآن، خططها للبحث عن بدائل».
وحذرت من أن “استمرار استخدام الصين للمعادن كسلاح ضغط قد يؤدي إلى تسريع مشاريع التعدين في أستراليا وكندا، ونقل سلاسل التوريد إلى الهند وجنوب شرق آسيا، واستثمارات أمريكية هائلة في إعادة التدوير والاستخراج المحلي».
وتابعت: “إذا تحررت واشنطن من التبعية، فإن الصين ستفقد واحدة من أقوى أوراقها الجيوسياسية. لذلك فهي تتصرف بدقة: تُخيف، دون أن تقطع الشريان نهائيًا».
وترى نيكولا، أن السنوات الخمس المقبلة ستكون حاسمة في سباق المعادن النادرة، حيث سيتقرر خلالها ما إذا كان العالم سيبقى تحت هيمنة الصين أم سيدخل مرحلة تعددية في مصادر الإمداد.
وأوضحت أن “الاتفاق بين ترامب وشي ليس صلحًا تاريخيًا، بل استراحة قصيرة في حرب تكنولوجية واقتصادية عميقة. فبكين خرجت رابحة في الجولة الحالية، لكنها تواجه منافسة عالمية لانتزاع احتكارها للمعادن النادرة».
ورأت أن “واشنطن، من جهتها، كسبت الوقت وحققت مكاسب سياسية داخلية، لكنها ما زالت تعتمد على بكين لتشغيل مصانعها ومستقبل صناعاتها عالية التقنية.
وأشارت إلى أن “الجولة المقبلة لن تُحسم في الغرف الدبلوماسية، بل في المختبرات، والمناجم، وسلاسل التوريد العالمية».

انتصار صيني
من ناحيتها، اعتبرت صحيفة “ليزيكو” الفرنسية، أن “الصين خرجت منتصرة على الصعيدين السياسي والاقتصادي” من القمة الثنائية بين دونالد ترامب وشي جينبينغ.
ووفقًا للصحيفة الفرنسية، فإن ترامب كان يأمل أن يُظهر “صداقته” مع الرئيس الصيني، لكنه وجد أمامه قيادة صينية واثقة وصلبة.
وقال شي جينبينغ في كلمته: “الاقتصاد الصيني يشبه محيطًا شاسعًا، كبيرًا، مرنًا، وممتلئًا بالفرص. لدينا الثقة والقدرة على الإبحار أمام كل المخاطر والتحديات».
وحصلت الصين على تنازلات كبيرة من واشنطن. فقد أشاد ترامب بجهود بكين في وقف تهريب مادة الفنتانيل، ووعد بخفض الرسوم الجمركية من 57% إلى 47%، وتراجع عن تهديده بفرض رسوم إضافية بنسبة 100% على الصادرات الصينية، ما يعني أن الصين ستواجه رسومًا بنسبة 47% فقط بدلًا من 157%، وهو ما يمنع الانفصال التجاري الكامل بين الاقتصادين.
وبحسب تقديرات “أوكسفورد إيكونوميكس”، قد يؤدي ذلك إلى رفع النمو الصيني بين 0.1 و0.2 نقطة مئوية في عام 2026.
وأعلن ترامب أيضًا استئناف صادرات المعادن النادرة إلى الولايات المتحدة فورًا، ولكن لمدة عام واحد فقط، قابلة للتجديد.
وقالت الخبيرة لويس لو من “أوكسفورد إيكونوميكس”، إن الصين ستواصل استخدام ورقة المعادن النادرة من حين إلى آخر كأداة ضغط جيوسياسي. لكن الأستاذ تشاو مينغهاو يتساءل: “إلى متى سيظل هذا السلاح فعالًا؟”، بحسب صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية.
في المقابل، يُقال إن ترامب انتزع وعدًا بعودة الصين إلى شراء فول الصويا الأمريكي، وهو ملف حساس سياسيًا في الداخل الأمريكي، إذ يمثل المزارعون قاعدة انتخابية رئيسة للرئيس.
لكن الصين لم تؤكد نيتها رفع الرسوم التي تفرضها على الصويا الأمريكي، كما أنها تواصل استيراده بكثافة من البرازيل، ولديها مخزون كبير يضمن أمن الإمدادات.

اتفاق بلا سلام
وكانت القضية الأساسية في القمة، مصير الحرب التجارية المستمرة بين البلدين، وفي النهاية أُعلن عن “هدنة هشة” دون توقيع اتفاق رسمي مكتمل.
وبحسب تشاو مينغهاو، الأستاذ في جامعة فودان في شنغهاي، فإن نجاح الصين الأكبر يكمن في أنها “أعادت فريق ترامب إلى طاولة المفاوضات».
وعدم وجود اتفاق مكتوب يسمح لبكين بالتراجع في أي لحظة، كما حدث، في أكتوبر-تشرين الأول الماضي، عندما أوقفت فجأة تصدير المعادن النادرة إلى الولايات المتحدة وأوروبا، في خطوة زلزلت الأسواق العالمية.
يعتقد محللون في بنك “بي إن بي باريبا” أن ما حدث ليس اتفاق سلام اقتصاديًا، بل مجرد “إطار مؤقت” يهدئ التوترات دون أن يغيّر المسار التاريخي للعلاقات بين البلدين.