"العودة".. يستكشف الأسئلة الأبدية المرتبطة بالهوية والحنين والخسارة والعودة المتأخرة

بعد نحو ثلاثة عقود من تعاونهما الشهير في "المريض الإنكليزي"، يعود النجمان جولييت بينوش ورالف فاينز إلى الشاشة معاً في عمل جديد يحمل عنوان "العودة"، من إخراج البريطاني أوبرتو بازوليني.

يستلهم الفيلم روح "الأوديسة" لهوميروس، لكنه لا يعيد سردها بقدر ما يعيد تأويلها من الداخل، مستكشفاً عبرها الأسئلة الأبدية المرتبطة بالحنين والهوية والخسارة والعودة المتأخرة.  وأوبرتو بازوليني، الذي لفت الأنظار بـ"حياة راكدة" في العام 2013 - عن موظف حكومي مهمته تعقّب أقارب الموتى المنسيين- يواصل هنا تأملاته السينمائية في العزلة، ولكن من زاوية أكثر مجازية. انطلق عرض الفيلم من مهرجان تورونتو السينمائي، قبل أن يحطّ في الدورة الأخيرة من مهرجان تسالونيك، حيث اجتمع الثلاثي، بينوش وفاينز وبازوليني، في لقاء حميمي مع الجمهور، وذلك خلال حوار غير مباشر بين الأسطورة والواقع، الماضي والحاضر.  بدت أرض الإغريق الموقع الأمثل لعرض هذا العمل، ليس فقط لأنه صُوّر في مواقع متعددة من اليونان، بل لأن طبيعة الفيلم نفسها تمزج بين الجماليات البصرية والتأمل الفلسفي، انطلاقاً من رؤية معاصرة لمسألة العودة، لا كحدث مكاني فحسب، إنما كتحول داخلي، وجودي، يرتبط بالنجاة والاعتراف والخلاص.
صحيح أن "العودة" يستند إلى تربة "الأوديسة" الهوميرية، لكنه لا يعيد اجترار الملحمة كما جاءت، بل ينفذ عبرها إلى أعماق النفس البشرية، ليقدّم رحلة داخلية لا تقل ألماً وتَكسّراً عن تلك التي خاضها أوديسيوس عبر البحار والعواصف والأساطير.
ينطلق الفيلم مع عودة أوديسيوس (رالف فاينز) إلى إيثاكا بعد غياب امتد عشرين عاماً. أصبح رجلاً مثقلاً بتجربة الحرب والتيه، بعيد كل البُعد من صورة المحارب الجسور التي عرفه بها الناس. ملامحه غيّبتها المعاناة، وصمته بات أفصح من أي قول. في غيابه، صار بيته ملعباً للأطماع: زوجته بينيلوبي (جولييت بينوش)، رهينة الحنين والحصار، تواجه ضغوط العشرات من الخطّاب المتلهفين إلى يدها وعرش زوجها. أما ابنه تيليماك (تشارلي بلامر)، فبات هدفاً مباشراً لمؤامرات تُحاك في الخفاء.
هكذا، يجد أوديسيوس نفسه أمام امتحان أكثر قسوة من الحرب: امتحان العودة إلى المعنى. عليه أن يواجه ماضيه ويستعيد انتماءه ويحمي ما تبقى من عالمه قبل أن يُطوى نهائياً. إنها ليست مجرد قصة عن رجل يعود، إنما عن رجل يُعاد تشكيله ليجد نفسه وسط الركام.
جولييت بينوش التي تستعد لترؤس لجنة تحكيم مهرجان كانّ السينمائي في دورته المقبلة، لا تزال تحظى بإجماع نادر من التقدير أينما حلّت. في مهرجان تسالونيك، وقف الناقد أوريستيس أندرياداكيس ليقدّمها بكلمة استهلها بلغة شاعرية، مستعرضاً مسيرتها الاستثنائية التي جمعتها بكبار مخرجي العالم، من كيشلوفسكي إلى كيارستمي. لم يشدّد على أدوارها الخالدة فحسب، كـ"ثلاثة ألوان: أزرق" و"عشاق البون نوف"، بل أثنى أيضاً على روحها الجريئة التي ترفض أن تُختزل في دور "الملهمة"، بل تصر على أن تكون شريكة فاعلة في تشكيل المعنى، وفي منح الشخصية عمقها الإنساني وامتدادها الرمزي.
ولم يغفل أندرياداكيس عن الإشادة برالف فاينز، ذاك الممثّل الذي يجيد التقلّب بين أقصى النقيضين: من الوحشية المجردة في "لائحة شندلر" إلى الهشاشة العاطفية في "المريض الإنجليزي"، وصولاً إلى الهزل الأنيق في "فندق بودابست الكبير. يرى أندرياداكيس أن لقاء بينوش وفاينز قبالة الكاميرا هو دوماً حدث سينمائي في ذاته؛ إذ ما إن يجتمعا حتى تتجلى كيمياء خاصة، قادرة على توليد لحظات من العمق العاطفي والصدق التعبيري، تجعل من أفلامهما معاً تجارب لا تُنسى.
أما أوبرتو بازوليني، الذي بدأ مسيرته منتجاً قبل أن يتحوّل إلى الإخراج، فقد تعاطى مع مشروع "العودة" بمنتهى التأني، كمن يحمل فكرة لا يريد التسرع في إنضاجها. يقول إن الفكرة راودته على مدى ثلاثين عاماً، أي أطول حتى من رحلة أوديسيوس نفسه، وأن ما كان يريده منذ البداية لم يكن إعادة صياغة ملحمة، بل بناء "أوديسة داخلية"، رحلة في النفس لا في البحار، تدور على الافتراق والخذلان والعجز عن استعادة ما ضاع. وبحسب قوله، فإن السيناريو تطوّر ليصبح قصة عن لمّ الشمل الذي لا يكتمل، عن المسافة التي تتسع بين أفراد العائلة على رغم القرب الظاهري، وعن الجراح التي تمنع الكلمات من أن تؤدي وظيفتها.
على رغم أن الحكاية مألوفة له منذ الطفولة، ففاينز وجد نفسه يعيد اكتشافها من منظور جديد. "المفاجأة لم تكن في القصة، بل في معالجتها. أوبرتو حوّلها إلى رحلة داخلية، رحلة رجل مكسور، محطّم من الداخل، لا يجد في العودة عزاءً ولا في الوطن ملاذاً. عودته ليست انتصاراً، بل مواجهة موجعة مع ما لا يمكن إصلاحه".

عودة البطل
أما شخصية بينيلوبي، في هذه القراءة المعاصرة، فلم تعد تلك المرأة التي تنتظر عودة البطل بذراعين مفتوحتين. إنها شخصية مستقلة لها عمقها وصراعها الداخلي. "اللقاء بين أوديسيوس وبينيلوبي"، يقول فاينز، "يتحوّل إلى لحظة مأسوية، ليس لأن أحدهما تغيّر فحسب، إنما لأن المسافة التي تفصل بينهما الآن، بعد كل تلك السنوات، صارت أعمق من أي بحر".
في نظر بينوش أن التحدي في أداء شخصية بينيلوبي يكمن في الإمساك بذلك الخيط الرفيع الذي يفصل الانهيار عن التماسك، وسط واقع خانق لا يرحم. تصفها قائلةً: "بينيلوبي في هذه النسخة معاصرة جداً، امرأة تملك الصبر الكوني، لكنها أيضاً متمردة صامتة. ليست مجرد زوجة تنتظر. تواجه الجانب المظلم من البشر، تواجه الخداع والمراوغة بدهاء صامت. التوازن العقلي الذي تحافظ عليه معجزة في ذاته. هذه الشخصية في عمقها، تحاول التوفيق بين الجوانب الأنثوية والذكورية التي في داخلها، تحاول العودة إلى الجوهر، إلى ذاتها، إلى ذلك البيت الذي لم يعد له جدران بالمعنى التقليدي، بعدما بات رمزاً لسلام داخلي ضائع، تسعى لاسترداده".
زيارة اليونان أضحت أكثر من مجرد محطة لجولييت بينوش. يمكن وصف ما عاشته بالتجربة الروحية التي تركت أثراً عميقاً في وجدانها. تتحدّث عنها بشغف واضح: "قضيتُ يوماً مذهلاً في تسالونيك. زرتُ الأديرة وسرتُ في الشوارع، لمستُ الأحجار وتأملتُ الأشجار. تذوقتُ الخبز والأسماك والخضار. كانت رحلةً تلامس الروح... هنا، السماء والبحر ليسا مجرد مشهدين طبيعيين، بل مصدران دائماً للإلهام. كلمات اليونانيين، من هوميروس إلى القديس باييسيوس، تنير طريقي وترافقني في حيرتي".
رالف فاينز تفاعل بالطريقة عينها. فبعدما زار إيثاكا مرتين، وجد فيها ما يشبه الصدى الداخلي لما يبحث عنه داخل نفسه: "في هذه الأرض، هناك طاقة لا تُشبِه غيرها. تشعر بها في الجزر، في الجبال، في تضاريس البلاد ومناظرها التي تسكنها أرواح قديمة. إنها طاقة تُذكّرني بما أشعر به أحياناً على الساحل الغربي لإيرلندا". وفي لحظة شاعرية، استدعى قصيدة "إيثاكا" لقسطنطين كفافيس، التي تُعد بمثابة نشيد موازٍ لـ"الأوديسة"، وتحتفل بالرحلة لا بالوصول".