الفيلم الياباني "القرية".. ذاكرة مرتبطة بالماضي المليء بالأحداث والعادات والتقاليد
تتجلّى جماليات الفيلم الياباني "القرية" (2023)، في مستويات عدّة، منها موضوع العمل، المتمثّل أساساً في مشكلة التلوّث، إذْ أُبرِزَ مدى تعاطي الفرد مع هذه المعضلة التي تهدّد البشرية، وتشكّل خطراً على مواردها الأساسية. المخرج وكاتب السيناريو ميتيهتو فوجي (36 عاماً)، اعتمد هذا الخيار، فاستقى موضوعاً عالمياً راهناً، وشكّله في سيناريو، نسج حوله (الموضوع) قصصاً ثانوية تكون رافداً له. في الوقت نفسه، كي لا يقع في المُباشر، الذي يمكنه هَدم أركان الفيلم كلّياً، وإذابة كلّ جمالية مفترضة، تعامل فوجي مع الموضوع بذكاء، ومنح المُتلقّي مرتكزات أخرى، ظهرت في مشاكل اجتماعية وشخصية، وعلاقات حبّ وخيانة وغيرة وبطولات مزيّفة، ليتسنّى له تقوية الموضوع الأساسي، وتوفير الأسباب الضرورية لتلقّيه وهضمه، والإحساس به.
رغم أنّها معطيات جاهزة ومكرّرة، لا تجديد جمالياً فيها، خلقت تماسكاً جيّداً، وحافظت على مستوى البناء، وضمن فوجي بها عدم التشويش على الجمهور الباحث أولاً عن التسلية. فغياب هذا المنطلق يُمكنه قَتْل الفيلم، والتسلية فيه ليست مجانية أو فارغة، بل ذات أبعاد جمالية وعميقة.
لم تكن القرية مجرّد فضاء معزول ومحدود، بل ذاكرة مرتبطة بالماضي المليء بالأحداث والعادات والتقاليد، إذْ يحمل كلّ فرد فيها ذاكرة، ومنهم يوو كتاياما (ریوسي یوکوهاما)، العامل في مصنع فرز النفايات. شاب غارق في كآبته وعزلته ووحدته، بعد أنْ حاصره ماضيه، وحاضره أيضاً، المنعكس في ديون أمّه المدمنة على القمار، فيُمارس مُضطرّاً عملاً غير مشروع: طَمر نفايات سامّة ليلاً. لكنّ حياته تتغيّر، مع عودة صديقة طفولته ميساكي (هارو كروكي)، من طوكيو، إذْ لم تستطع العيش في تلك المدينة الكبيرة واعتيادها، فعادت إلى قريتها للعمل في المصنع نفسه مسؤولةً عن العلاقات العامة. لاحقاً، تفاجأ بكمية الحزن والكآبة التي بات عليها يوو، فهو لا يزال يتعرّض للتنمّر، خاصة من ابن العمدة تورو (واتارو إيتشينوسي)، الشاب الطائش والمتنمّر، الذي يُنفّذ الأعمال القذرة لوالده، ويحبّ ميساكي، التي لا تبادله الإحساس نفسه، فهي تحبّ يوو، وتحاول إخراجه من الحزن، وتنجح في هذا، بعد دفعه إلى التصالح مع ذاته، بإقناعه بأنّه غير مسؤول عمّا حدث لأبيه في الماضي، فوالده يتحمّل المسؤولية وحده. صورة والده المتوفى قاتمة عند أهل القرية، الذين يرونه مجرماً لإحراقه قاعة المسرح.
تتصاعد الأحداث أكثر، بعد أنْ أصبح يوو الوجه الإعلامي للقرية، بتعريفه بمصنع فرز النفايات. لكنْ، هناك أمرٌ مخفيّ: ساهَم في تلويث مياه القرية، ولم يُبلّغ السلطات، كما كان يفعل والده، الذي ناضل لعدم إنشاء مصنع في القرية. أكثر من هذا، ساهم، عبر عمله السابق، في طمر المواد الملوّثة والخطرة. بعد ذلك، تنكشف تفاصيل القصّة أمام أهل القرية، لتأخذ بُعداً مغايراً. كما طرأت تطوّرات عدّة، فينكشف الماضي والحاضر، وتقع مواجهة المثاليّ المزيّف والواقع الحقيقي.
لَطَّف ميتيهتو فوجي القصّة بتوظيف فن الـ"نو" المسرحي، فخرج من مأساوية الأحداث وبُعدها المظلم إلى فضاء حالم، ومَكّن الجمهور من الابتعاد، قليلاً، عن الأحزان. الـ"نو" فنّ مسرحي عريق عند اليابانيين، يرتدي فيه الممثلون أقنعةً، ويؤدّون أدوارهم على وقع الموسيقى، بنبرة الصوت نفسها. إضافة إلى تشكيل فضاء المسرح بطريقة موروثة من الماضي. في "القرية"، استطاعت ميساكي معالجة يوو بفضل الـ"نو"، لأنّه يحمل رمزية تاريخية وُبعداً فلسفياً. في حوار، قالت ليوو، الذي غلبه النوم من شدّة التعب عند مشاهدته عرضاً مسرحياً، فشجّعته على مواصلة النوم، ثم قالت: "فنّ الـ(نو) يجعلك تواجه ذاتك الداخلية، بدلاً من محاولة الفهم. يجب أنْ تستجيب بطريقتك الخاصة. هذا التأويل ليس خاطئاً أبدا". في موقعٍ آخر، تقول عن توظيف الأقنعة في الـ"نو" إنّ "لديها القدرة على تهدئة القلب".
امتلك ریوسي یوکوهاما قدرة رهيبة واستثنائية في تأدية شخصية يوو، هادماً الفاصل بين الممثل وأدواره، كأنّه عكس مساره. في المقابل، أدّى دوراً من أدوار كثيرة له، لكنّه اجتهد أكثر مما ينبغي، ودرس الشخصية بحرفية، وتعامل معها كما يجب. إنّه الجهد نفسه، تقريباً، الذي بذلته هارو كروكي والممثلون الآخرون، وهذا يُحسب لميتيهتو فوجي، لحُسن اختياره وإدارته الممثلين. كما اعتمد على جماليات أخرى، منها تلاعبه الواضح بالمرايا في مَشاهد عدّة، محافظاً بها على استمرار اللقطات من دون قطعها.
إضافة إلى تجميل الكادر السينمائي، وخلق التنوّع البصري والبديل في المونتاج، فتجلّت موهبته، مؤكّداً مرة أخرى أنّه يملك رؤى سينمائية حاذقة.
قدّم فوجي صورة مأساوية وقاتمة عن بعض ما يجري اليوم في اليابان، خاصة في مجال تغليب الصناعة وإفرازاتها الخطرة على البيئة.
صرخة قوية نَبّه فيها جهات عدّة، لتوسيع قائمة المعايير، والانتباه أكثر إلى ما تُحدثه المصانع المختبئة خلف شعارات رنّانة. وأشار إلى أنّ مشكلة التلوّث لم تعد محصورة في المدن الكبرى فقط، بل وصلت إلى القرى النائية، فوجَب الحذر ودقّ ناقوس الخطر، قبل أنْ يقضي التلوّث على الحاضر والمستقبل، والماضي أيضاً. تلوّث المياه، مثلاً، سبب رئيسيّ لهجرة الفرد من بيته وقريته، ما يؤدّي إلى التخلّي عن الفنون والمعمار والنمط المعيشي، وغيرها من عادات وتقاليد لا تزال محفوظة.
صرخة قوية نَبّه فيها جهات عدّة، لتوسيع قائمة المعايير، والانتباه أكثر إلى ما تُحدثه المصانع المختبئة خلف شعارات رنّانة. وأشار إلى أنّ مشكلة التلوّث لم تعد محصورة في المدن الكبرى فقط، بل وصلت إلى القرى النائية، فوجَب الحذر ودقّ ناقوس الخطر، قبل أنْ يقضي التلوّث على الحاضر والمستقبل، والماضي أيضاً. تلوّث المياه، مثلاً، سبب رئيسيّ لهجرة الفرد من بيته وقريته، ما يؤدّي إلى التخلّي عن الفنون والمعمار والنمط المعيشي، وغيرها من عادات وتقاليد لا تزال محفوظة.
هذا جرح ذاكرة فردية وجماعية، وقضية التلوّث باتت أكثر من مشكلة اقتصادية وبيئية، لتهديدها نمط الحياة البشرية، ووجودها.