بين الحلم الأوروبي والنفوذ الروسي.. مولدافيا أمام اختبار المصير
تعيش مولدافيا، الدولة الصغيرة الواقعة على أطراف القارة الأوروبية، حالة من توتر سياسي مزمن، وسط مساعٍ حثيثة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، يقابلها نفوذ روسي متجذر في تاريخ البلاد وجغرافيتها، ما يجعلها عالقة بين خيارين متناقضين يحددان ملامح مستقبلها السياسي.
ورغم أن حزب العمل والتضامن، المؤيد للاتحاد الأوروبي والذي تقوده رئيسة البلاد مايا ساندو، حقق فوزا مهما في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التي جرت قبل أكثر من شهر؛ إذ نال ما يزيد قليلاً على 50% من الأصوات، لكن ذلك لا يلغي تحديات تفرمل توجه كشينوف غربا.
ويوضح خبراء إن هذا الانتصار الانتخابي، وإن كان يعزز مسار السعي نحو التكامل مع الاتحاد الأوروبي، إلا أنه يستلزم الكثير من الجهود لتفكيك الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي لمولدافيا المرتبط إلى حد بعيد بالفضاء الروسي، بل أن موسكو تعتبر مولدافيا ضمن مجال نفوذها التقليدي.
وتكشف النتائج من الناحية الشكلية والديمقراطية، عن منح أغلبية مواطني البلاد شرعية للحزب الحاكم للمضي في سياساته نحو أوروبا، غير أن ذلك لا يلغي وجود انقسام، فثمة شريحة واسعة، كذلك، متأثرة بالخطاب الروسي وتميل الى التقارب مع موسكو، ومن هنا يصعب اعتبار نتائج الانتخابات تفويضا حقيقيا وفعالا للانضمام الى أوروبا.
سطوة النفوذ الروسي
موالدافيا، التي تبلغ مساحتها نحو 34 ألف كيلومتر مربع، وعدد سكانها نحو مليونين و600 ألف، كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي السابق قبل أن تحصل على استقلالها في العام 1991 ، وبالتالي فان نفوذ روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي، متشعب ومتجذر في البلاد، بحسب خبراء.
وفضلاً عن التأثير الاقتصادي والسياسي الروسي، فإن اللغة الروسية منتشرة ومتداولة في بعض المناطق، وهو ما يقوي المساعي الروسية لإبقاء موالدافيا، ضمن مجال نفوذها.
وكانت الحكومة المولدافية، قررت، قبل نحو أسبوع، إغلاق المركز الثقافي الروسي في العاصمة كيشينوف، في مؤشر على محاولات للتخفيف من سطوة الثقافة الروسية.
ولاقت الخطوة تنديداً من موسكو والمعارضة المولدافية الموالية للكرملين، غير أن وزير الثقافة المولدافي أوضح أن المركز كان يمارس “أنشطة لتقويض سيادة جمهورية مولدافيا” تحت غطاء ثقافي، مؤكداً أنه “لم يكن بأي حال مركزاً ثقافياً».
واتُخذ القرار في أول اجتماع للحكومة الجديدة، بعد فوز حزب ساندو؛ ما يؤشر إلى احتمال اتخاذ قرارات مماثلة في سبيل التوجه غربا، وفقا لخبراء.
جيب ترانسنيستريا
يمثل جيب ترانسنيستريا أبلغ تعبير عملي عن النفوذ الروسي، فهو جيب انفصالي مدعوم من موسكو التي تحتفظ بوجود عسكري هناك.
ومثل هذا الوجود العسكري الروسي، يجعل من المستحيل تقريبا دمج مولدافيا في الاتحاد الأوروبي قبل حل هذا النزاع.
ومن هنا يشدد خبراء على أن أي مسار نحو الاتحاد الأوروبي يتطلب إدارة حساسة لقضية ترانسنيستريا وإقناع المجتمع الدولي بعدم وقوع تصعيد إقليمي، وهو عامل يحد من قدرة الحكومة على المناورة الأمنية والدبلوماسية.
ويعرب خبراء عن اعتقادهم أن قضية هذا الجيب تلقي بظلالها دائما على طموح مولدافيا الأوروبي، فهي تذكر دائما بوجود النفوذ الروسي على أبوابها الشرقية، وهو نفوذ يعطّل أي محاولة للخروج من العباءة الروسية.
للاقتصاد كلمته
ولا ينبغي القفز فوق حقيقة أن مولدافيا تُعد من أفقر دول أوروبا، كما يلاحظ خبراء، وهي تعتمد بشكل كبير على التحويلات المالية من المهاجرين، فضلاً عن أن الاقتصاد غير متنوع، والزراعة تمثل نسبة كبيرة من الناتج المحلي؛ ما يجعل التكيّف مع السوق الأوروبية المشتركة تحديا كبيرا.
وفي ظل هذا الاقتصاد الضعيف، فإن الاتحاد الأوروبي يخشى تدفق المهاجرين المولدافيين بحثًا عن عمل، خصوصا من المناطق الفقيرة، في حال فُتحت الحدود تدريجيا، كما تقتضي قوانين “شينغن”، وهو ما سيشكل عبئا.
ويشير الخبراء كذلك الى معضلة الفساد وضعف المؤسسات، فرغم الإصلاحات الأخيرة، ما زالت مؤشرات الشفافية والمساءلة منخفضة في موالدافيا، وهو ما لا يتناسب مع معايير الاتحاد الأوروبي الذي يشترط وجود مؤسسات مستقلة فعالة، وقضاء نزيه.
يشار إلى أن مولدافيا حصلت على وضع مرشح رسمي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2022، لكنها ما زالت في المرحلة الأولى من المفاوضات.
وهناك أكثر من 30 فصلا تفاوضيا، بحسب خبراء، يجب إغلاقها بعد تنفيذ إصلاحات في مجال استقلال القضاء، والمنافسة الحرة، والبيئة والطاقة، والنظام الضريبي، وسيادة القانون... وهو مسار معقد لم تحقق منه كشينوف سوى القليل.
ورغم أن وجود أغلبية للحزب الحاكم في البرلمان، والذي يحتفظ بـ 55 مقعدا من أصل 101، تتيح تمرير تشريعات مؤيدة للإصلاح، للتقارب مع المعايير الأوروبية، لكن التنفيذ العملي للإصلاحات، كما يقول خبراء، ليس مسألة تصويت فقط؛ إذ يتطلب وجود مؤسسات قانونية فعّالة، وجهاز قضائي مستقل،
وأجهزة تنفيذية متماسكة، للحد من نفوذ اقتصادات الظل والرجال الأثرياء المتحكمين في قطاعات استراتيجية.
وفي ضوء ما سبق، ثمة ثلاثة سيناريوها تتحكم في مصير مولدافيا، أولها السيناريو المتفائل الذي يتمثل في استثمار الحكومة للأغلبية لتمرير إصلاحات تقوّي مؤسسات الدولة وتخفف الفساد، مع دعم أوروبي متزايد؛ ما يجعل من خيار التوجه غربا، ممكنا.
وثمة سيناريو يمكن وصفه بالمتردد، وهو تمرير قوانين شكلية لكن مع بطء في التنفيذ بسبب مقاومة شبكات مصالح محلية وضغط خارجي روسي؛ ما يسمح للمعارضة الموالية لموسكو بإعادة تعبئة الجمهور ضد الخيار الأوروبي.
أما السيناريو الثالث، فيتمثل في حدوث صدمات خارجية من قبيل انقطاعات الطاقة، أو أزمات اقتصادية أو أمنية مرتبطة بترانسنيستريا، وتعقيداتها، وهو ما سيضعف ثقة الناخبين ويفتح نافذة أقوى لتكريس النفوذ الروسي.
ويستنتج خبراء أن مولدافيا تعيش اختبارا يفوق قدراتها المحدودة؛ إذ يتقاطع مصيرها مع تطورات الحرب في أوكرانيا ومع توجهات الاتحاد الأوروبي في توسيع فضائه شرقاً، وإذا ما تراجع الدعم الأوروبي أو تصاعد الضغط الروسي،
فقد تجد مولدافيا نفسها عالقة في المنطقة الرمادية بين موسكو وبروكسل،
وبالتالي فإن مسار الدولة الصغيرة لن يُحسم داخل حدودها فقط، بل مرتبط بتوازنات وتحالفات تتجاوزها لتشمل القارة برمتها.