جيف باكلي... أغنيات للذين يصرخون على الطريق

جيف باكلي... أغنيات للذين يصرخون على الطريق

"لا أكتب موسيقاي لسوني، بل أكتبها للذين يصرخون على الطريق". ما من عبارات تلخص ديسكوغرافيا الموسيقي والمغني الأميركي الراحل، جيف باكلي، أكثر مما تفعل كلماته القليلة هذه، التي نسترجعها في ذكرى رحيله اليوم.
 
رحل باكلي في عام 1997، قبل أن يتم سن الـ 31، وذلك في ذات اليوم المشؤوم الذي قرر فيه زيارة قناة وولف ريفر في نهر ميسسيبي، حيث لا ينصح بالسباحة أبدًا. "الذئب"، وهكذا يدعو السكان المحليون قناتهم الخطرة، سيكون في الانتظار. مضى باكلي وحده في الماء متجاهلًا كل التحذيرات ومرتديًا ملابسه كاملة. كان التيار قويًا جدًا، وسرعان ما جرفه بعيدًا عن الشاطئ، إلى يدي والده الموسيقي الراحل تيم باكلي، وهو صاحب كلمات أغنية Song To The Siren الشهيرة، وفيها يدعو جسدًا غارقًا لم يخطر له أن يكون لابنه يومًا: "اسبح إلي، اسبح إلي، دعني ألفك. ها أنا هنا، أنا هنا، أنتظر أن أحضنك". 
 
لن يكون باكلي الأب وحده من رثى ابنه قبل أوانه، بل استشعر جيف نفسه رحيله أيضًا، مكررًا سطره الغنائي الشهير: "نائم على الرمال، تغمرني المياه"، ومخبرًا أصدقاءه على الدوام أنه سيموت شابًا. التقرير الطبي الذي صدر بعد رحيله لم يجد أي آثار للكحول أو المخدرات في جسده. مع ذلك، ظلت الأسئلة قائمة بعد أن غادر جيف؛ هل استسلم للضغط الهائل، كما يروي بعض أصدقائه، بسبب إنتاج ألبوم ثانٍ لـ"سوني" بعد "غريس"؟ أم أنه انتحر خلافًا لتصريحات موقعه الرسمي حول الحادثة المؤسفة؟ أو شيئًا بين هذين الاثنين، كما ادعى مديره ديف لوري في مرحلة لاحقة، شارحًا أنه لم يتقصد الأمر لكنه لم يقاومه أيضًا؟ 
 
تولت والدة جيف ماري غيبرت، وهي موسيقية أيضًا، مهمة توضيح حادثة موته في كل مرة يحاول فيها أحدهم إعادة تخيلها، وخاضت حربًا طويلة مع شركة سوني بعد إفصاح الأخيرة عن نيتها في المضي قدمًا في إصدار الألبوم الثاني الذي كان جيف قد سجله جزئيًا وأراد "حرق أغانيه" كلها. وتوصلت معها إلى تسوية نتج عنها إصدار ألبوم Sketches for My Sweetheart the Drunk. وهو ثاني ألبومات الموسيقي بعد ألبومه الوحيد الصادر عن استديو خلال حياته بعنوان Grace. تلا ذلك العديد من الألبومات التي أشرفت والدته على صدورها، مثل So Real وYou And I. نظمت والدة جيف الأفلام والسير الذاتية والمقابلات عن حياته أيضًا، وتحدثت مع كثير من المؤلفين والمؤرخين وكتاب السيرة الذاتية. صرحت مرة أنها "عرفت أكثر مما يجب أن تعرفه أي أم عن ابنها"، وهي تمارس وظيفتها الجديدة في حماية إرث ابنها الموسيقي بعد رحيله.
أما خلال حياته، فكان لدى جيف ميل متطرف للحلول محل الآخرين وتنفيذ مهامهم بنفسه، فلحن أغانيه وسجلها وكتب كلماتها وحده، ما حفظ مكانته ضمن قائمة محدودة من المغنين الذين عرفوا بكتابة كلمات موسيقاهم إلى جانب تأليفها مع الحفاظ على جرعة الارتجال والتطوير خلال التسجيل، ومنهم باتي سميث وليونارد كوهين، وصولًا إلى والده تيم باكلي الذي أنجز أول ألبوماته في ذات العام الذي ولد فيه ابنه، من دون أن يتخطى ألبومه التاسع بسبب وفاته في سن صغيرة أيضًا، لا تتجاوز الثامنة والعشرين.  
 
قبل ألبوم "غريس"، كان باكلي عازفًا ومغنيًا في مقهى Cine المعروف، لكن شركة سوني كولومبيا أقنعته بالتحول إلى فنان استديو، أسوة ببوب ديلان ومايلز ديفيس، وغيرهما من الفنانين الذين أنتجت الشركة أول ألبوماتهم. عزف باكلي العديد من الأنماط الموسيقية، ومنها الجاز والبلوز والكانتري، لكنه عرف بتحديه لأنماط العزف السائدة في الروك عبر تهجين ألحانه واختراع أسلوب نقر أوتار الغيتار الشهير. امتد صوته على أربعة أوكتافات، ما ساعده على تنويع أسلوبه الغنائي والوصول إلى طبقات رفيعة وحادة في الكابيلا، أشهرها في أغنية Dream Brother التي أبرزته مغني تينور محترفا وسط جيله، وروكر أتقن أداء آريا باروكية من القرن السابع عشر لهنري بورسيل Dido's Lament، أكثر مما فعل أي مغن أوبرالي آخر.
 
نسمع في موسيقى باكلي أصواتًا حادة من نوع آخر أيضًا، تلك التي علت بين الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي في أميركا؛ صوت الحركة والتحول والاضطراب التي تلت إعادة ترتيب المشهد الثقافي وهدم أعمدته الرئيسية.  تنقل باكلي عبر هذا العالم الثقافي أيضًا، ووجد طريقة لالتقاط صوت موسيقى Gen X مع تشبثه بتقاليد موسيقية وأصوات قديمة لبيلي هوليدي وإديت بياف.

عودته للماضي وقدرته الهائلة على تجرع تاريخ الموسيقى واختصاره في قطعة مغناة واحدة، نجم عنهما نكتة على هيئة سؤال لطالما تلقاه الموسيقي الشاب بروح مرحة: ما هو نوع الطفولة البائسة التي عشتها؟ سيكون من الصعب على جيف أخذ سؤال محبيه بجدية، خاصة أن طفولته لم تكن سعيدة بالفعل، وهو الذي لم يلمح والده إلا مرتين فقط خلال حياته، وكان احتفاله بعامه التاسع والعشرين ليس إلا احتفالًا بتخطيه عدد السنوات التي عاشها والده قبل رحيله بجرعة زائدة من الهيروين. موسيقاه تشبه طفولته إلى حد بعيد، فهي "بلا جذور"، كما أسماها باكلي مرارًا، تفيض بالسفر والترحال ومساحات الصمت الشاسعة التي حاكها في ألحانه، وملأها بالإيقاع والعويل وريفز الجاز (Riffs)  المتموجة.

يصف مات جونسون موسيقى باكلي بأنها "تجبرك على الرجوع إلى شغفك، وتشعرك أنك تفعل شيئًا لا تفعله خارج أوقات استماعك لها". تسربت الصوفية إلى قطعه، تأثرًا بأعمال الموسيقي الباكستاني نصرت فاتح علي خان، وتحديدًا تبنيه لفن الغناء القوالي Qawwali الذي ظهر في شبه القارة الهندية ومزج بين تقاليد وثقافات موسيقية متنوعة، منها الفارسي والهندي والعربي. ورث جيف عن علي خان قدرته على التجديد والابتكار في ذلك النمط الروحاني الذي يقوم على فكرة انغماس الموسيقي في موسيقاه إلى حد التلاشي، لكنه أخذ أيضًا من أسلوب مايلز ديفيس في العزف، ولعله أول من بنى على التشابهات الدقيقة بين التقاليد الغربية والشرقية الصوفية، كالتكرار والعشوائية والتوليف بين النظام والفوضى.يتلاعب باكلي بأوتاره الصوتية أيضًا، متنقلًا بين الفالسيتو والفورتي والأنين الصوفي بسلاسة مطلقة، ويضيف على ذلك كله النبض الإيقاعي لغيتاره الكهربائي الذي يجمع بين موسيقى البلوز الثقيل وأصوات الشرق الأوسط. وتلك ميزات نسمعها بوضوح في أدائه لأغنية "هللويا" لليونارد كوهين، التي أعاد باكلي توزيع ألحانها وأداءها بعيدًا عن نمط غناء الغوسبل. 
 
لم يعش باكلي طويلًا، لكنه أنجز خلال سنوات حياته القصيرة عددًا من أجمل الأغنيات وأكثرها تأثيرًا على الموسيقى المعاصرة والهجينة. ترك موته أسئلة معلقة حتى اليوم، هل اجتذبته ذات الهاوية التي أغوت والده من قبله؟ أم أنه اختار العيش يافعًا إلى الأبد؟