منصور بن زايد: المتحف يعكس رؤية الإمارات نحو تعزيز الثقافة والسلام والتعايش
إعادة اكتشاف عظمة الحياة عبر التفاصيل الصغيرة والبسيطة
رحلة هارولد فراي... محاولة للخلاص من السآمة الأبدية وعبودية الروتين اليومي
في صبيحة أحد الأيام، يتجه هارولد فراي (جيم برودبنت)، إلى صندوق البريد لإرسال رسالة محتواها لا يتجاوز عدة أسطر لصديقته كويني هينيسي (ليندا باسيت)، بعد سماعه خبر إصابتها بمرض السرطان. لسبب ما، يكمل الرجل المتقاعد سيره متخطيًا صناديق البريد المسمرة في فناءات المنازل واحدًا تلو الآخر، ويقرر مواصلة المشي من جنوب إنكلترا إلى شمالها، وتحديدًا إلى بيرويك-أبون-تويد حيث تقع دار الرعاية التي تسكنها كويني، معتقدًا أن سفره على الأقدام نحو زميلته القديمة، سيبقيها بطريقة ما على قيد الحياة.
يستكين بطل الفيلم لحياة مليئة باليأس والملل مع زوجته مورين (بينولوبي ويلتون)، وهي "جدار تتوقع وجوده في محله، حتى لو لم تكن تنظر إليه كثيرًا". يعيش الثنائي حياة منغلقة ومتواضعة منذ 25 عامًا، يتشاركان فيها الهموم الكثيرة إلى جانب التخمة والضجر اللذين يميزا نمط حياة الضواحي. لا يجري الكثير في يومهما خلافًا لتنظيف السجاد الباهت وجز العشب الندي في أيام العطل. تضعنا تلك الصورة الشاحبة على استعداد لمواجهة فيلم عن النهايات الحزينة أو الشيخوخة قاتمة الأفق، لكن الرجل ذا الثلاثة وسبعين عامًا، يفاجئنا بسلسلة من الأسفار غير المخطط لها. شيء ما يجذبه للطريق، كما لو أنه يستجيب لنداء بعيد، نابع من أدغال روحه الحبيسة خلف أطنان من المهمات الفارغة والأهداف الوهمية.
ما يخاله فراي رحلة لإنقاذ صديقته، يتضح مع مرور الأحداث أنه ليس إلا تعبيرًا يونغيًا لاواعيًا عن رغبته في إنقاذ نفسه مما هو غير مفهوم تمامًا، ومحاولته للخلاص من السآمة الأبدية وعبودية الروتين اليومي اللذين يسممان جذور حياته.
يمشط فراي التلال الريفية والطرق السريعة ودروب الدراجات الهوائية والنارية خلال ترحاله، هائمًا وحرًا، بلا مفاتيح ونقود أو بطاقات ائتمان أو خرائط رقمية تحدد وجهته وتبرمج مسيره. يرهن نفسه للطريق فقط، فيرد عليه الأخير بعطاياه ومفاجآته غير المتوقعة. ما في جعبته إلا روحه وقلبه وما تبقى من ذنوبه وأفكاره المؤجلة يسترجعها خلال رحلته النفسية والجسدية الممتدة على طول أربعمائة وخمسين ميلا، فيواجه تارة شياطينه الماضية ويعيد النظر في حياته الخاصة وزواجه من مورين، ويستعيد تارة أخرى ذكرياته القاسية مع ابنه ديفيد على هيئة "فلاشباكات" مؤثرة تحتل قسمًا كبيرًا من الفيلم وتخبرنا بأن للبطل قصته الخلفية، وعند هذا الحد تتركها، من دون مبالغات أو حشو لتمضية ما تبقى من دقائق الفيلم المائة واثنتين.
يعيد فراي اكتشاف عظمة الحياة عبر التفاصيل الصغيرة والبسيطة؛ "لم أدرك يومًا أن الماء شهي للغاية"، يتمتم وهو يعب المياه من كوب حصل عليه من إحدى المزارع المجاورة. وتزداد ثقته بصلابته وقوته، رغم معاناته مع تفشي بثور القدمين المؤلمة وتفتت حذائه على قدميه. يلتقي بعدد كبير من الأشخاص الطيبين الذين يرغبون بمشاركة قصصهم الغريبة والرائعة معه. "للطف الغرباء"، كما يصفه تينيسي وليامز، قوة علاجية رهيبة، خاصة لمن يؤمن به ويبحث عنه في نفس كل عابر، فمع أن لقاءات فراي عبر الفيلم هي في معظمها قصيرة وعابرة، لا يتجاوز بعضها ثواني قليلة، إلا أنها تترك بصمتها على حياة الرجل المتقاعد، وبعضها يبدو أكثر حكمة وعذوبة من عمر بحاله، مثل لقائه بالشاب المراهق الذي تعرف من خلاله إلى ابنه المغترب بشكل أعمق وأنضج، أو بالطبيبة السلوفاكية التي لا يمكنها الحصول على وظيفة، فتمتهن تنظيف المراحيض، وتخفف عنه آلام قدميه المصابتين بجروح بالغة، مجسدة صورة المجدلية وهي تغسل قدمي المسيح بالطيب.
يركز الفيلم على العلاقات المعطوبة والمضطربة بين أوساط العائلة والأصدقاء، ويرصد كيف تتفكك الروابط فيها أو تزداد عمقًا وتشابكًا مع مرور الزمن، من بينها علاقة كويني بفراي، التي نستشف أنها لم تكن على القدر ذاته من الوئام والود كما هي اليوم، كذلك الأمر بالنسبة لعلاقة فراي بزوجته مورين وتحررها من جمودها مع النهاية، سامحة لعواطفها نحو زوجها بأن تطفو على السطح من جديد، فضلًا عن رفضها البقاء رهينة منزلها، فتنتزع في آخر الفيلم ستائره البيضاء المقيتة بعدما أمضت خلفها أعوامًا طويلة تتجرع الحزن.
في تلك المشاهد وأخرى كثيرة، يظل فيلم هارولد فراي مخلصًا للكتاب المأخوذ عنه طوال مدة عرضه، خاصة أنه لا يقدم قصص شخصياته كاملة، حاله حال الرواية المأخوذ عنها، إذ ألحقت الكاتبة رواية هارولد فراي بروايتين لاحقتين، الأولى عنوانها "أغنية حب عن الآنسة كويني هينيسي"، وفيها تكتشف كويني أن هارولد فراي يسير على طول إنكلترا لإنقاذها، وأخرى عنوانها "مورين"، تُروى من وجهة نظر زوجته هذه المرة.
في نهاية كل لقاء، يمضي فراي من دون وداعات أو تبادل عناوين وأرقام. المضي قدمًا يبدو أهمّ من خلق الصداقات الجديدة أو اكتشاف جمال الطبيعة من حوله. وهذا ما يجعلنا نسأل أنفسنا مرارًا طوال الفيلم: لماذا لا يستقل القطار فحسب؟ وما أهمية المشي إن كان هدفه الوصول إلى صديقته على فراش الموت بأسرع وقت؟ قد نجد الإجابة عن تلك التساؤلات المشروعة في قصة حقيقية من حياة المخرج الألماني فيرنر هيرتسوغ الذي سار من ميونخ إلى باريس لمدة ثلاثة أسابيع تحت الثلوج والأمطار عام 1974، وذلك بعد سماعه بإصابة الناقدة ومؤرخة السينما لوته أيزنر بمرض عضال. اعتقد هيرتسوغ وقتها أن المشي سيبعد الموت عن معلمته، مرددًا طوال مسيرته: "لن تموتي". استجابت الأقدار لصلوات المخرج غير المتدين فعلًا، فكتب بعدها مذكراته عن تلك الرحلة عنوانها Walking in Ice.
عنوان الفيلم، إلى جانب رحلة هيرتسوغ الأسطورية، يقترحان علاقة مباشرة بين سير فراي والمبادئ التي تقوم عليها طقوس الحج. ومع أن للحج دلائل معنوية في معظم الديانات السماوية، إلا أنه يعرف في الطقوس التأملية والروحانية أيضًا تحت اسم "الطواف العلماني". مثل هيرتسوغ، ليست لدى فراي أي معتقدات دينية مصرح عنها، لكنه مؤمن إلى حد كبير في طوافه، ومدعومًا بأفكار امرأة يلتقيها في محطة الوقود، فتخبره بأن إيمانها بتعافي عمتها ساعد المرأة المريضة على الشفاء. رحلته ليست ضربًا من ضروب التطير أو تشجيعًا على خداع النفس، بل اختبارًا للإيمان بالذات وطلبًا للمغفرة منها قبل أي شيء.بلا أي انعطافة خاطئة، يقطع فراي الطريق الذي يحفظه عن ظهر قلب، مارًّا بمواقع بالغة التأثير على الشخصية البريطانية، ومنها تمثال ملاك الشمال، فيصاب مرافقوه من المشاهدين بعدوى الحنين ذاتها، ويقضون إلى جانبه وقتًا طويلًا في التعرف إلى البلدات ورموزها المألوفة التي تصورها هيتي بإخلاص شديد، من دون ألاعيب لونية أو بصرية تحرف واقعها، من غابات وجداول وحقول، وصولًا إلى كومات القش وحبات التوت الأسود الممتلئة التي تميز الريف البريطاني الساحر. يضيف إلى كل هذا أداء برودبنت الساحر بعفويته الخالصة وجاذبيته التي لا تخبو حتى في أكثر البيئات بهوتًا. ليس فيلم هارولد فراي واحدًا من أفلام رحلات الطريق فحسب، بل هو فيلم عن المتقدمين في السن وموجه لهم أيضًا.
هدوؤه الخالص إلى جانب فلسفته المبطنة، يجعلانه طفرة في عصر الـCGI وأفلام الحركة المفضلة عند جيل الألفية، وتأكيدًا لمقولة قديمة تخبرنا بأن الحياة وجدت لمن يضعون قدمًا أمام أخرى.
هدوؤه الخالص إلى جانب فلسفته المبطنة، يجعلانه طفرة في عصر الـCGI وأفلام الحركة المفضلة عند جيل الألفية، وتأكيدًا لمقولة قديمة تخبرنا بأن الحياة وجدت لمن يضعون قدمًا أمام أخرى.