رؤية نقدية

رواية ليالي سردينيا وأدب سرد الذات

رواية ليالي سردينيا وأدب سرد الذات

استوقفني عنوان رواية ليالي سردينيا للكاتب عمار بورويس، التى تقع في 175 صفحة من القطع الصغيرة، ويلفت النظر اختياره لاسم جزيرة نائية في بلاد الغرب على الجانب الأخر لقريته الصغيرة التى تتطابق في مساحتها وتكوينها الجغرافي مع قريته التى تعتبر من القرى النائية أيضا في وطنه الجزائر، وقريته “زبوجة” تشبه في موقعها نفس الجزيرة التى اختارها الكاتب لتكون استراحته الفكرية، وانطلاقته لسرد روايته الأولى، فالمناخ كما ذكره الكاتب تقريباً شبه متقارب من حيث الطقس وجغرافية المكان، لكن الفرق بينهما كان في المسار السياسي والفكري والمعاناة، وعلى ما يبدو أنه اختار “سردينيا” لشهرتها ولكونها من الغرب بديلا لـ “زبوجة “ قريته.

وتأتي وقفة أخرى عند الإهداء الذي قام الكاتب بتوجيهه إلى أمه، وبدلا من كتابة بعض الجمل التجميلية والثناء في وصفها، ومدى ارتباطه بها كما يفعل الكتاب والشعراء، كتب عن معاناتها وأساليب القهر والظلم التى تعرضت له، فبدى للقارئ أنه يهدي الرواية للوطن الأم، وكأنه جسد الأمومة في الوطن الذي لا يختاره المرء بإرادته بل ينشأ ويترعرع فيه ويصبح مصيره مرتبط بمصيره وبما فيه من مر وحلو.

ونجد أن الكاتب من بداية الرواية حاول الفصل المادي بين سرده ووصفه للأحداث، باختيار نوع الخط المائل محاولة منه بأن يجعل كلام الراوي كالهامش، بينما فحوى النص على لسان صديقه بالخط الطبيعي وهذا من الناحية الإخراجية والتصميم كان موفقاً فيها جداً، واعتمد الكاتب على مفردات سهلة وبنى روايته على الحكي والسرد والراوي العالم بالأحداث، مستنداً على سرد قصته على ما مرت به المنطقة من أهوال ومعاناة وويلات الحروب والاستعمار، مبين مدى التضامن النفسي والوعي عند البعض في تلك المرحلة الزمنية، فجمع الكاتب في روايته بين سرد الذات والتأريخ لمرحلة زمنية مر بها في حياته وأراد بقلمه وثقافته أن يدونها على شكل نص أدبي اختار له حبكة درامية،

 تجسدت في رحلته داخل نفسه، عندما وجد صديق يعتبر ظله ووجهه الأخر، لكن بزي خارجي مختلف يميل للغرب بينما جوهره وثقافته وهمومه مازالت بين اضلعه، فبمجرد وجوده معه استعاد الذكريات والتاريخ والأحداث، التى امتدت لسنوات العمر الطويل وتم تدوينها في خمس ليال، لقاء يومي بينهما في مشهد متكرر يسرد فيه الصديق كل الأحداث، ويدونها الكاتب في حيادية مطلقة وبأسلوب مجرد من التدخل، وقد تفوق الكاتب على نفسه في السرد ونقل الصورة والتشبيه، وخلق حالة من القراءة البصرية والسمعية بالاستعانة اللفظية للكثير من التلاعب بالحواس حين يذكر زخات المطر ولمس الأشياء وتذوق القهوة وغيرها من العوامل التى يتعايش معها القارئ ويشعر أنه جزء من الحدث، وكأنه يشاهد فيلم مصور يعرض على الشاشة.

استفاد الكاتب من معرفته واطلاعه على الأدب العربي، فالتركيبة الأدبية والحوار الدائر بين الراوي وصديقه يذكرنا بكتاب الدكتور مصطفى محمود “ أنا وصديقي الملحد” الذي استعرض فيه نفس الحبكة بمحاورة نفسه على هيئة صديق، والكاتب عمار بورويس حاور نفسه بما يحمل من هموم وطنه، وأراد أن يؤرخ في روايته “ ليالي سردينيا “ للأجيال القادمة سيرة ذاتية لقرية صغيرة، حاول من خلالها أن يلقي الظلال على الوطن الكبير ككل، فالقرية نموذج للوطن.

تمكن الكاتب من ربط الأحداث بالماضي والحاضر والمستقبل بوعي شديد، فالحاضر الذي تناوله كان من سرد حالته الدائمة وسبب وجوده ولقائه مع صديقه “رشيد” وذهب في السرد إلى سبب وجود صديقه في الجزيرة، واعتبر هذا الوجود عنصر تشويق للقارئ، وكان موفقاً أيضاً حين جعل قصة صديقه خاتمة للرواية بانتظار ابنه الوافد الجديد من بلاده والرحلة الغير شرعية المستمرة لبلاد الغرب والبحث الدائم عن المجهول والفرار من الحاضر المؤلم لرؤية المستقبل الواعد، الذي ينشد فيه الحرية والانطلاق بعيداً عن الكبت والظلم، وترك الكاتب للقارئ مساحة للتفكير في حلول لأن قصة الفرار الغير شرعي مازال مستمر، فالرواية في مجملها تتمتع بحبكة احترافية وبسرد متقن وأسلوب سهل متميز.