قد تدفع واشنطن والأوروبيين إلى مراجعة حدود دعمها العسكري لأوكرانيا

روسيا تعيد عقيدة الردع النووي.. رسائل ضغط جديدة في معركة الأعصاب مع الغرب

روسيا تعيد عقيدة الردع النووي.. رسائل ضغط جديدة  في معركة الأعصاب مع الغرب


بين رسائل الردع واستعراض القوة، تستخدم موسكو خطابها النووي اليوم كأداة سياسية محسوبة لا كتهديدٍ عشوائي، خاصة أن كل تصريح روسي حول «الأسلحة التكتيكية» يُقرأ كجزء من معركة الأعصاب مع الغرب، ويدفع واشنطن والعواصم الأوروبية إلى مراجعة حدود دعمها العسكري لأوكرانيا.
في 22 أكتوبر-تشرين الأول الماضي، ظهر الرئيس فلاديمير بوتين مشرفًا على تدريبات للقوات النووية، معلنًا اختبار منظومة «بوسيدون» النووية تحت الماء التي وصفها بأنها «فريدة في العالم» ويستحيل اعتراضها، إلى جانب الكشف عن قرب نشر صاروخ «سارمات» الباليستي العابر للقارات، الذي يُعدّ الأكثر فتكًا في الترسانة الروسية. وبعد أيام فقط، أعلن الكرملين نجاح اختبار صاروخ «بوريفيستنيك» العامل بالطاقة النووية، القادر على التحليق لمسافات غير محدودة، في رسالة رمزية إلى خصوم موسكو بأن الردع الروسي لا يعرف حدودًا.

بوتين: روسيا اختبرت مسيرة بحرية بقدرات نووية
ولم يتأخر التصعيد اللفظي عن المشهد، خاصة أن نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف وصف منظومة «بوسيدون» بأنها «سلاح يوم القيامة»، ملوحًا بأن روسيا تملك أسلحة لا يحمي منها حتى ملجأ القنابل.
وفي المقابل، حذر وزير الخارجية سيرغي لافروف من اختبار عزيمة بلاده، مؤكدًا أن موسكو ستدافع عن مصالحها الوطنية بأي وسيلة ضرورية، مع التأكيد في الوقت نفسه أن روسيا لا تسعى إلى إشعال مواجهة نووية بل إلى حماية أمنها القومي.
وفي 29 أكتوبر/تشرين الأول، شدد المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف على أن روسيا وبيلاروسيا لا تشعران بالأمان في ظل هستيريا التصريحات الأوروبية المعادية، مشيرًا إلى أن بلاده تعمل باستمرار لضمان أمنها القومي رغم التوتر المتصاعد. وذهب نائب رئيس لجنة الدفاع في الدوما أليكسي جورافليوف إلى أبعد من ذلك، ملمحا إلى إمكانية نشر صواريخ روسية قادرة على حمل رؤوس نووية في كوبا أو فنزويلا بالقرب من الخصم الجيوسياسي الرئيسي، في إشارة مباشرة إلى الولايات المتحدة.وبينما يؤكد بوتين أن نشر صاروخ «أوريشنيك» النووي في بيلاروسيا سيتم بحلول ديسمبر-كانون الأول، يصر الكرملين على أن اختباراته الأخيرة ليست إلا ضمانة للأمن القومي الروسي في مواجهة التهور الغربي.

حدود التصعيد المقبلة
ومع استمرار الدعم الغربي لكييف، يبدو أن موسكو تواصل اللعب على حافة التهديد النووي دون أن تعبرها بعد، وهو ما يفتح الباب أمام تساؤلات أكبر حول حدود التصعيد المقبلة.
ويرى الخبراء أن الخطاب الروسي بشأن إمكانية استخدام الأسلحة النووية التكتيكية لا يعني بالضرورة اللجوء الفعلي إليها، بل يأتي في إطار سياسة الردع والضغط على الغرب لوقف دعمه العسكري لكييف. 
وكشف الخبراء في تصريحات لـ«إرم نيوز» أن موسكو تنظر إلى أي تهديد من دول الناتو أو نقل للأسلحة الغربية عبر الأراضي الأوروبية بوصفه «تهديدا وجوديا»، ما يمنحها وفق عقيدتها الدفاعية الحق في الرد بما في ذلك استخدام أسلحة نووية محدودة إذا تصاعد الصراع مباشرة مع الغرب.وأضاف الخبراء أن اللجوء إلى السلاح النووي سيبقى احتمالاً قائماً فقط إذا شعرت موسكو بأنها محاصرة أو مهددة في أمنها القومي، أو إذا تحولت الحرب إلى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة وحلفائها، وهو ما يدفع الكرملين لتصعيد الخطاب دون تجاوز عتبة الاستخدام الفعلي.

مخاطر استخدام الأسلحة النووية
ويؤكد د. سمير أيوب، المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، أن الحديث الدائر هذه الأيام عن إمكانية استخدام روسيا للأسلحة النووية التكتيكية لا يمكن أن يقتصر على الأراضي الأوكرانية فحسب، مشيراً إلى أن استخدام مثل هذه الأسلحة على الأراضي الأوكرانية يشبه في أثره استخدامها على الأراضي الروسية أو على أراضي تعدها روسيا تابعة لها. 
وقال أيوب في تصريح لـ«إرم نيوز» إن روسيا تنظر إلى تلك الأراضي، بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم فيها، على أنها أراض تابعة لها، مؤكداً أن أي تلوث أو آثار تدمير شامل قد تمس تلك الأراضي قد تؤثر على روسيا نفسها، لا سيما من حيث التلوث البيئي والجوي.
وأشار إلى أن القادة الروس حينما يتحدثون عن إمكانية استخدام الأسلحة النووية التكتيكية يقصدون احتمالين اثنين، إما استخدامها في غربي أوكرانيا، أي في المناطق القريبة من بولندا والدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو، وإما احتمال استخدامها داخل دول أوروبية تستهدف قواعد عسكرية تعتبرها روسيا مراكز لتخزين أسلحة تُرسل إلى أوكرانيا مثل صواريخ «توماهوك» أو أسلحة ذات تدمير شامل.
وأضاف الخبير في الشؤون الروسية أن العقيدة الروسية تفترض أن وجود مخازن أو تمرير أسلحة عبر أراضي دول أوروبية نحو أوكرانيا قد يُعد تهديدا وجوديا لروسيا، ومن ثم يُعطي الحق في الرد واستهداف تلك القواعد.

احتمالية استخدام الأسلحة النووية 
وأوضح المحلل السياسي أن الحديث عن أن روسيا قد تستخدم هذه الأسلحة في الوقت الراهن ما زال سابقاً لأوانه، مشيراً إلى أن استعمال مثل هذه الأسلحة يتطلب وجود مبررات صعبة أو أوضاع ميدانية بالغة السوء بالنسبة لروسيا. 
وأكد أن المشهد الميداني حالياً لمصلحة روسيا إلى حد كبير، مبيناً أن المبادرة تظل بيد الجيش الروسي الذي يحقق تقدماً ملحوظاً ويُمارس ضغطاً كبيراً على نظام كييف والجيش الأوكراني.
وقال د..سمير أيوب إن الاستهدافات الأوكرانية للأراضي الروسية حتى الآن اقتصرت على بعض الصواريخ التي جُهزت أو زودت من دول أوروبية، مثل صواريخ طراز «ستورم شادو» أو بعض الأنواع الفرنسية.
وأضاف أن نظام كييف، المدعوم من أجهزة المخابرات والأمن الغربية، يعتمد بصورة كبيرة على المعلومات الاستخباراتية التي تُزودها هذه الأجهزة، مشيراً إلى استهدافات لبعض السفن والمواني الروسية وتوجّه الضربات نحو منشآت نفطية، غير أن روسيا تعد هذه الضربات حتى الآن «غير موجعة» ولا تشكل خطرًا كبيرًا على أمنها القومي أو على مواعيدها الاستراتيجية.

محاولات أوكرانية لاستفزاز روسيا
وأكد د. سمير أيوب، المحلل السياسي، أن من مصلحة نظام كييف أن يُستفز روسيا لإدخالها في ردود فعل أقسى وأوسع خارج الأراضي الأوكرانية، لافتاً إلى أن أي استفزاز رئيس من قبل حلف الناتو والولايات المتحدة قد يوسع دائرة الصراع. 
وأضاف أن توسع مشاركة الولايات المتحدة وحلفائها مباشرة قد يُدخل الحرب في طور أوسع ويُفضي إلى تصعيد شامل، وفي تلك الحالة يعتقد أن روسيا قد تلجأ إلى استخدام الأسلحة النووية التكتيكية كرد فعل على توسع الصراع واشتراك قوى غربية مباشرة فيه. واستدرك أيوب قائلاً إنه، حتى الآن، يستبعد أن تتحول هذه الأسلحة إلى خيار تُستخدمه روسيا بصورة سريعة أو دون سبب قوي ومبرر ميداني. 
وأشار إلى أن روسيا لا ترى حاجة لاستخدام مثل هذه الأسلحة حتى في حال استمرار الضغوط، إلا إذا نشب صراع مباشر وخطير مع الدول الأوروبية وحلف الناتو شاركت فيه الولايات المتحدة بشكل واضح، وإلا فإنه لا يعتقد أن روسيا ستلجأ إلى هذا النوع من الأسلحة في الوقت الراهن.

حالات اللجوء الروسي إلى النووي
من جانبه، قال د. نزار بوش، أستاذ العلوم السياسية بجامعة موسكو، إن روسيا تمتلك عقيدة نووية دفاعية، مؤكداً أنها لن تستخدم الأسلحة النووية سواء الاستراتيجية أو التكتيكية إلا في حالات محددة تدعوها للدفاع عن نفسها.
وأشار في تصريح لـ«إرم نيوز» إلى أن العقيدة الروسية تقوم على قاعدة أساسية، إذا عرفت روسيا من خلال الاستخبارات والأقمار الصناعية أن دولة أطلقت صاروخا باتجاه أراضيها وهو في طريقه إليها، فإن ذلك يخول لها تنفيذ ضربة نووية ضد الدولة التي أطلقت ذلك الصاروخ، بوصفها تدافع عن نفسها قبل دخول الصاروخ مجالها الجوي. وأضاف أن هذه القاعدة تتجسد أيضا عندما يُهدد وجود الأمة الروسية أو تتعرض لتهديد حقيقي، ففي مثل هذه الحالة من غير المرجح أن تتردد روسيا في استخدام السلاح النووي، تكتيكيا أو استراتيجيا من أجل حماية شعبها.
وأشار بوش إلى أن حالة التحالف الذي قد ينوِي استخدام السلاح النووي ضد روسيا أو يهددها تمثل سبباً آخر قد يدفع روسيا لاستعمال ترسانتها النووية ضد ذلك التحالف أو ضد أي دولة تهدد وجودها. 

تعديل العقيدة النووية
وأضاف أستاذ العلوم السياسية بجامعة موسكو أن روسيا قادرة على تعديل عقيدتها النووية واستخدام الضربات النووية التكتيكية تبعاً لمتطلبات الوضع الميداني والتهديدات الماثلة، فإذا وُضعت روسيا في موقف محاصر أو واجهت تهديداً مباشراً، فقد يدرس مجلس الأمن القومي الروسي الوضع الأمني والاستراتيجي ويمنح الإذن لاستخدام الأسلحة النووية أو التكتيكية عند الضرورة.
وفيما يتعلق بالجهة العسكرية في أوكرانيا، قال بوش إن روسيا لن تستخدم السلاح النووي لا تكتيكياً ولا استراتيجياً ما دامت تحقق المبادرة وتنتصر على الجبهات. 
وحذر من أن روسيا قد تلجأ إلى السلاح النووي إذا شعرت بأنها ستخسر المعركة أو إذا استدعت الحاجة لتغيير المعادلة لمصلحتها 180 درجة، وفي هذه الحالة قد يكون السلاح النووي التكتيكي أو الاستراتيجي الوسيلة التي تغيّر ميزان القوى. وأكد د. نزار بوش أن الاستخدام الممكن للنووي سيكون فقط في حالات تُعد دفاعية بحتة، معتبرا أن روسيا ليست في طبيعتها معتدية نووية، بل تدافع عن وجودها وسيادتها. ونبه إلى أن استهداف منشآت استراتيجية داخل العمق الروسي مثل محطة نووية أو معهد أبحاث علمية حساسة أو مطارات استراتيجية مراراً وتكراراً قد يدفع موسكو إلى استخدام السلاح النووي التكتيكي، وأنه حتى الآن يكفي الاعتماد على السلاح التقليدي والقدرات الصاروخية الجديدة لردع العدوان.
وأضاف أن روسيا أظهرت أسلحة جديدة بعضها يمكن تحميله برؤوس نووية مثل صواريخ «كانغال»، ومع ذلك يمكن استخدام نسخها برؤوس تقليدية لأداء دور الردع، وكذلك صواريخ «كاليبر» المجنحة التي يصل مداها إلى نحو 2500 كيلومتر وتكفي للردع. 
وأكد بوش أن الوضع حتى الآن تحت سيطرة روسيا،
 وأنه في حالة التهديد الأمني القومي من الغرب قد تلجأ موسكو إلى أسلحتها الأكثر تدميراً  بما في ذلك النووية، وأن الغرب يدرك ذلك جيدا، لذا غالبا ما تكون التصريحات الغربية إعلامية بحتة.