فيلمٌ مُنجَز بسلاسة بعيدة عن أي متخيّل سينمائي
"شيرلي" حكاية أول امرأة سوداء تترشّح للانتخابات الرئاسية الأميركية
كأنّ المنصّة الأميركية "نتفليكس" تبغي تحسيناً لشيء من صورتها، الخاضعة لطغيان نتاج استهلاكي، بعضه باهت، وبعضٌ آخر مليء بحكاياتٍ مُسطّحة، منها ما يُطعَّم بجنسٍ، غير مُبرَّر درامياً، غالباً. هذا غير حائلٍ دون "بثّ" أفلامٍ وسلاسل وثائقية ومسلسلات تُصنع بجماليات مُثيرة لمتعة المُشاهدة، رغم ما فيها من قهرٍ وآلامٍ وانهيارات وإخفاقات، منبثقة كلّها من حالة بشرية عامة، في راهنٍ قاسٍ. هناك أيضاً فُكاهة مقبولة، وتنويع غير مُسطّح، رغم قلّة نتاجاته.
كأنّ "نتفليكس" تريد إثبات "قناعتها" بـ"نجاح" خطّة لها، تقول بالتساوي بين الجميع، سواء كانوا أعراقاً أم فئات اجتماعية أم ثقافية، فتُنتج أو تُشارك في إنتاج أفلامٍ، روائية وغير روائية، تسرد مقتطفات من سِيَر أفرادٍ، مُهمّشين أو شبه مُهمّشين، لهم - لهنّ في المشهد العام حضورٌ فاعل أو مؤثّر. والتهميش حاصلٌ في اجتماع وأدبٍ واشتغالٍ فني متنوّع، يستلّ (الاشتغال) منه (التهميش) فُتاتاً، يُقدِّم للمشتركين والمشتركات بالمنصّة بعض تاريخٍ منسيّ، قصداً أو عفواً.
شخصيات عدّة غير معروفة كثيراً، رغم ما تصنعه في المشهد العام من مفاصل أو تغيير ـ محاولة تغيير، فإذا بـ"نتفليكس" تُنتج أعمالاً متفرّقة عنّها: رُسْتن بايارد، مناضل أفروأميركي من أجل الحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدّة الأميركية، وأوتّو سكورزيني، أحد أبرز مرافقي أدولف هتلر، ومُنفّذ مهمّات خاصة بأمر منه، كإنقاذ بينيتو موسوليني من الأسر، في 19 سبتمبر/ أيلول 1943 ("أخطر رجل في أوروبا: أوتّو سكورزيني في إسبانيا"، وثائقي، 2020، لبيدرو دي اينشافي غارثيا وبابلو أثورين ويليامس).
مَثَلان غير لاغِيَين نتاجات عدّة، آخرها "شيرلي" (روائي، 2024) لجون ريدلي: حكاية شيرلي تشيزوم (1924 ـ 2005)، أول امرأة سوداء تترشّح للانتخابات الرئاسية الأميركية عام 1972، وأول امرأة سوداء تُنتَخب في مجلس النواب. فيلمٌ مُنجَز بسلاسة بعيدة عن أي متخيّل سينمائي، يُفترض به (المتخيّل) منح كلّ فيلمٍ جماليات تُخرجه من رتابة السيرة الحياتية - المهنية لشخصيات عامة. كأنّ تحقيق المشروع (سيناريو ريدلي نفسه) كامنٌ في إبراز النصّ وسرد الحكاية بأقلّ قدر ممكن من الإنجاز البصري، لكنْ مع الحِرفية المهنيّة في إنجازه.
هذا نوعٌ مُعتَمد في صناعة السينما، المعنية بالسِيَر الحياتية - المهنية. اختيار التبسيط أداة لتحريض المُشاهِد - المُشاهِدة على فهم حساسية المسألة والزمن، وعدم الانبهار بجماليات فنية، والتركيز على الحكاية وزمنها وشخصياتها. هذه ميزة تُضاف إلى أخرى: اختيار فترة محدّدة، بدلاً من السيرة كلّها، فاختيار السيرة كلّها يوقِع المشروع (فيلم روائي)، غالباً، في مطبّات سينمائية، منها عدم القدرة على إيفاء "السيرة كلّها" حقّها في أنْ تعكس الشخصية وعيشها وعالمها. بينما انفلاش النصّ على السيرة كلّها قابلٌ للتحقّق في سلسلة وثائقيّة مثلاً، رغم صعوبة الإحاطة السينمائية بـ"كلّ" السيرة.
في "شيرلي"، يُحدَّد زمن الحكاية بفترة واحدة، تتمثّل بترشّح شيرلي تشيزوم لانتخابات الرئاسة عام 1972. لكنّ هذا يتطلّب سرد خلفيات (قليلة) وجوانب (عدّة)، يتحرّر الفيلم من كثرتها، ويتكفّل السابقُ مباشرة لنهايته بإخبارٍ مباشر عن أحوال الشخصية الأساسية، وبعض الشخصيات المحيطة بها، والمرافقة لها في مرحلة الترشّح، التي يسبقها انتخابها نائبة عن الدائرة 12 في نيويورك، في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 1970، للمرّة الثانية (تشيزوم منتخبة في الدائرة نفسها 7 مرّات، بين عامي 1968 و1980).
في مقابل اللغة السينمائية العادية والسَلِسة، تبرز ريجينا كينغ في أداء الشخصية الأساسية، مُقدِّمة إياها بكلّ ما فيها من بساطة وانفعال وغضب مكتوم وتوتّر، ومن قوة إرادة تدفعها إلى خوض أقسى المعارك والتحدّيات. تُتقن كينغ نبرة تُقرّب الممثلة إلى الشخصية، وتعتمد ملامح وجه شبه جامدة، لكنْ بمشاعر متناقضة كثيرة، تخرج إلى العلن من دون افتعال أو تصنّع.
هذا غير حائلٍ دون جمالية تمثيلٍ. لكنّها، بانغماسها في عمق شيرلي تشيزوم، نفسياً وثقافياً وانفعالياً على الأقلّ (هناك شَبَهٌ في الشكل بين المرأتين، غير مُكتَمِل، لكنّه نافعٌ إلى حدّ ما في منح الممثلة أداة إضافية لتأدية دور الشخصية)، تكاد تكون الفيلم برمّته، وهذا ممتع ومُفيد.