محمد بن راشد: المشروع يمثل وجهاً حضارياً لدولتنا.. وعنواناً للرحمة والعطاء
1939، 1994، 2022:
فنلندا، الشيشان، أوكرانيا: لماذا تتشابه حروب روسيا...؟
	-- تستفيد أوكرانيا من دعم خارجي، افتقدته فنلندا عام 1940، والذي يسمح لها بالمقاومة
-- في كل مرة، ليست العناصر الكمية هي التي تحدد قوة الجيش السوفياتي أو الروسي، ولكن تنظيمه
-- امتلك الخصوم قدرة هائلة على التواصل، حيث تألق الاتحاد السوفياتي وروسيا بصمتهما أو بدعاية في قطيعة مع الواقع
-- يبدو أن هذا الوضع سيؤدي إلى حرب مجمدة مع عواقب دولية أكثر خطورة بكثير من تلك المرتبطة بحرب دونباس 2014
	
إذا قارنا الحرب الحالية في أوكرانيا بنزاعين سابقين شارك فيهما الجيش السوفياتي والروسي -الحرب السوفياتية الفنلندية عام 1939 والحرب الأولى في الشيشان في 1994-1996 -يمكننا فقط أن نتفاجأ من أوجه التشابه بينهما. ومع ذلك، فإن السياقات التاريخية والاجتماعية مختلفة تمامًا. ما هو القرب الذي يمكن أن يكون بين الاتحاد السوفياتي عام 1939، الذي تميز بعمليات التطهير الستالينية الرهيبة، والذي تعيش حكومته في خوف من غزو ألماني مستقبلي، وروسيا عام 1994، مجتمع في حالة انهيار كامل حيث يسود منطق المافيا، وحيث على الجيش اللجوء إلى كل أنواع مخططات المراوغة لكسب المال، وروسيا عام 2022، التي “ارتقت”، بعبارة عزيزة على فلاديمير بوتين، على مدى العقدين الماضيين؟
	
يظهر ثابت عند دراسة هذه الصراعات الثلاثة: مزيج من الخوف الذي يشعر به الكرملين (جنون العظمة المفرط في الاتحاد السوفياتي في عهد ستالين، والخوف من تمزيق أوصال روسيا في أوائل التسعينات، والرهبة من تمدّد الناتو عام 2022) والثقة غير المتناسبة للسلطة الروسية في جيشها، على الرغم من الجهل العميق بأسلوب عمله.
	
	
وبالمثل، في عام 1939 وعام 1994 كما في عام 2022، لم تؤخذ قوة العدو في الاعتبار بشكل كاف. يمكن فهم هذا: على الورق، اختلال توازن القوى مطلق. ومع ذلك، في كل مرة، ليست العناصر الكمية هي التي تحدد قوة الجيش السوفياتي أو الروسي، ولكن تنظيمه، الذي يرتبط ارتباطًا مباشرًا بعنصر أساسي: مستوى تحفيز رجاله، الذي يظل هشًا.
	
السلطة لا تعني السيطرة
لأنه إذا كان الجيش السوفياتي أو الروسي عبارة عن هيكل سلطوي، فإن طاعة رجاله غير مؤكدة. هذه هي الطريقة في 31 ديسمبر 1994، عندما أمرت هيئة الأركان العامة الروسية بدخول أربعة طوابير إلى غروزني، عاصمة الشيشان، امتثل اثنان فقط، ورفض قادة الوحدتين الأخريين الانصياع.
في تلك الحرب، كانت القدرة على قيادة وزير الدفاع، بافل غراتشيف، “تعتمد بشكل مباشر على وجوده على الأرض”. لأنه عندما تكون القوات الروسية ضعيفة الدافع والحافز، فإن الأوامر تميل إلى الضياع في صعوبات الإرسال. خلال الحرب الأولى في الشيشان، تم إنشاء نظام للسلطة كاريزمي: يجب أن يكون القائد “رائعًا” لتتم طاعته، ويجب أن يعطي شخصيًا أوامره لمرؤوسيه. هذا الوجود الإلزامي على الأرض يمكن أن يفسّر أيضًا العدد الكبير من الجنرالات الروس الذين قتلوا في الحرب الحالية في أوكرانيا.
	
في هذا السياق، تضطر القيادة إلى السماح للقوات بتنظيم نفسها، حتى لو كان ذلك يعني فقدان السيطرة. يمكننا أن نفهم بشكل أفضل الانتهاكات العديدة التي ارتكبتها القوات الروسية في هذه الحرب الأولى في الشيشان، حيث أن هيئة الأركان العامة كانت قلقة من المقاومة غير المؤكدة لقواتها ضد عدو شرس، أكثر من اهتمامها بالوجود المؤكد للسلوك الإجرامي.
وخلال الحرب الأولى في الشيشان، بعيدًا عن الظهور كقوات غارقة في الدعاية ومستعدة للموت من أجل الوطن الأم، تردد الجنود الروس ولم يفهموا لماذا كان لا بد من مهاجمة منطقة شعروا أنها قريبة جدًا منهم، وتضم عاصمتها غروزني ما يقرب من 29 بالمائة من الروس. لم يتم اتباع الأوامر، أو انها لم تصل إلى مستلميها. حتى أن المدفعية الروسية ستذهب عام 1996 إلى حد قصف وحدة سبيتناز التابعة لـ جهاز الأمن الفيدرالي للاتحاد الروسي في بيرفومايسكايا، والتي يكرهونها، بذريعة سوء الفهم أو أخطاء إطلاق النار.
	
ولأن الجيش الروسي في التسعينات كان بعيدًا عن كونه هيكلًا مترابطًا: فقد أضيف إلى الجيش، الذي يعود بالنظر الى وزارة الدفاع، وحدات وزارة الداخلية، ولكن أيضًا قوات الأمن التي يشكل جهاز الأمن الفيدرالي للاتحاد الروسي جزءً منها وتحت تسمية “القوزاق” قوات غير نظامية. وقوات وحدات وزارة الداخلية، المشهورة بقسوتها ومستوى فسادها العالي ونجاعتها، مكروهة بشكل خاص من قبل المجندين الذين يشكلون الجزء الأكبر من القوات. وهكذا، لئن مارس الكرملين سلطته المطلقة على قواته المسلحة، فإنه لا يسيطر عليها فعلاً، وهو ما سيحدث أيضًا أثناء الحرب الثانية في الشيشان، التي سجّل فيها الانتصار هذه المرة، ونفذت في ظل قيادة فلاديمير بوتين.
	
حدثت هذه الظاهرة أيضًا أثناء الحرب السوفياتية الفنلندية: فقد أدرك الجنود بسرعة التناقض بين الدعاية السوفياتية للنظام الستاليني والواقع على الأرض: كان الفنلنديون بعيدين عن كونهم برابرة ينتظرون بفارغ الصبر تحريرهم من قبل القوات السوفياتية التي وصفتها لهم الدعاية. وهكذا، إلى الرسائل العديدة من الجنود السوفيات المندهشين من كثرة القرويين الفنلنديين، ستضاف حلقات عصيان، مثل الأغاني المناهضة للحرب بعد جولات من الفودكا وبعض الفارين. ستتمكن مفوضية الشعب للشؤون الداخلية بسرعة من قمع هذه المظاهرات المعادية بإطلاق النار على الفارين والهاربين.
	
العدو يعرف دائما
كيف يتواصل
في هذين النزاعين السابقين، تعرضت القوات الروسية لمعاملة رهيبة في مواجهة قوة حرب عصابات شديدة الفعالية. ولئن ركز الجيش الفنلندي على أرتال الحرس الخلفي التي دمروها بشكل منهجي، فإن الشيشانيين نفذوا أعمالًا مرهقة أكثر باستخدام القناصة، والتدمير المنهجي لأرتال الإمداد، وإطلاق النار على سيارات الإسعاف، وحتى إطلاق النار من حين لآخر من المستشفيات من أجل تحريض الجنود الروس على الرد والقدرة على تسليط الضوء على وحشية هذا الأخير.
وإذا كان الشيشانيون عنيفين بشكل خاص تجاه الجنود الروس، لم يكن هذا هو الحال مع الفنلنديين الذين ارتكبوا بعض الانتهاكات في بداية الحرب، ولكن سرعان ما دعتهم حكومتهم الى الانضباط، لأن تلك الإجراءات المعزولة ستضعف الخطة الاتصالية الموجهة للعالم.
	
في هاتين الحربين، أثبت الفنلنديون والشيشانيون أنهما يملكان قدرة هائلة على الاتصال، حيث تألق الاتحاد السوفياتي وروسيا بصمتهما أو بدعاية في قطيعة مع الواقع. وإذا كان المضمون الاتصالي للشيشانيين والفنلنديين يهدف إلى تعبئة المجتمع الدولي، فإن اتصال موسكو يهدف قبل كل شيء إلى إخفاء حقيقة الحرب والوضع الصعب الذي يمر به الجيش، ان لم يكن حجم عدد الجنود الذين قتلوا، عن الشعب.
	
حرص الشيشانيون على أن يُظهروا للعالم العديد من الدبابات الروسية المدمرة، وقصف المباني المدنية، والانتهاكات العديدة التي ارتكبتها القوات الروسية. ونشر الفنلنديون، قبل أكثر من خمسين عامًا، صورًا لجنود سوفيات ميتين مجمدين، كاشفة عن الضعف اللوجستي لجيش العدو.
لقد وصفوا أيضًا الجنود السوفيات بأنهم كائنات لا يمكن السيطرة عليهم “غير قادرين على رؤية سلطوية أسيادهم والرد عليها”، في المقابل تعرض هلسنكي “كرامة وشجاعة وفحولة ومثابرة وضبط النفس” لدى الجيش الفنلندي. وبذلك، نجحوا في إطلاق العنان لحركة تعاطف حقيقية من الدول الغربية تجاههم، بل وحصلوا على نتيجة تحسدهم عليها الحكومة الأوكرانية الحالية: الوعد بالتدخل المسلح من قبل فرنسا، والذي لم ينجز. لقد ذهب إدوارد دالاديير، رئيس المجلس، الذي يشعر بحساسية خاصة تجاه روح المقاومة لدى الفنلنديين، إلى حد اقتراح التدخل العسكري، مما أدى إلى إزعاج كاي دورسيه، الذي لم يفهم كيف يتسنّى الدخول في صراع مع الاتحاد السوفياتي بينما فرنسا والمملكة المتحدة في حالة حرب مع ألمانيا النازية.
	
حروب على مرحلتين
في كلتا الحالتين، دارت الحرب على مرحلتين.
إذا كانت الأولى مجرد سلسلة من الإخفاقات العسكرية، فإن الثانية هي مناسبة لإعادة تنظيم الجهاز العسكري السوفياتي ثم الروسي، مما اعطى نتائج أكثر إقناعًا. بالنسبة للحرب الشيشانية، سمحت المرحلة الثانية بالاستيلاء على عاصمتها غروزني، على حساب العديد من القتلى المدنيين ودمار هائل. وبالنسبة لحرب الشتاء، قرر السوفيات التخلي عن خطتهم الأولية لغزو فنلندا وإعادة التركيز على الاستحواذ على مناطق ذات قيمة استراتيجية عالية.
في الحالتين، كان الأسلوب العسكري المستخدم هو نفسه: القصف المكثف من أجل الاستفادة من المدفعية المتفوقة بشكل لا نهائي، والتقدم البطيء والمنهجي بشكل جيد بما يتعارض والتقاليد العقائدية للجيش السوفياتي. وإذا كان من الممكن في حالة حرب الشتاء التوصل إلى هدنة، الأمر الذي أثار ردود فعل عدائية من السكان الفنلنديين، فقد اختلف الأمر في الشيشان. بعد الانتصار الأول، تم طرد القوات الروسية على حين غرة من غروزني بعد بضعة أشهر، وكان عليها إبرام هدنة تعترف بحكم الأمر الواقع باستقلال الشيشان.
	
هل ما زالت الهدنة ممكنة؟
بعد الدروس المستفادة من هاتين الحربين، لا يسع المرء إلا أن يشك في إمكانية التوصل إلى هدنة للحرب الحالية في أوكرانيا.
خلال الحرب مع فنلندا، أراد السوفيات تحرير قواتهم المسلحة للسماح لها بالاستعداد لمواجهة لاحقة مع ألمانيا حيث كان الجيش الفنلندي على وشك الانهيار. فيما يتعلق بالحرب الشيشانية الأولى، كان مستوى تفكك المجتمع الروسي الى درجة أن الكرملين شعر بأنه مضطر لتوقيع هدنة. ولم يكن الأمر كذلك في الحرب الحالية في أوكرانيا، حيث لن يشعر أي من الطرفين المتحاربين بأنه ملزم بقبول وقف إطلاق النار.
وإذا كانت روسيا قد تكبدت خسائر كبيرة، فهي ليست عرضة لتهديد حيوي يجبرها على إنهاء الحرب بالتخلي عن فتوحاتها؛ أما بالنسبة لأوكرانيا، فهي تستفيد من الدعم الخارجي، الذي افتقدته فنلندا عام 1940، والذي يسمح لها بمقاومة ورفض التنازلات الإقليمية المفرطة. ويبدو أن هذا الوضع سيؤدي إلى حرب مجمدة مع عواقب دولية أكثر خطورة بكثير من تلك المرتبطة بحرب دونباس 2014 *دكتور في العلوم الإدارية- باحث مشارك بـ مختبر البحث متعدد التخصصات في علوم العمل، المعهد الوطني للفنون والحرف.
                                   
														
							-- في كل مرة، ليست العناصر الكمية هي التي تحدد قوة الجيش السوفياتي أو الروسي، ولكن تنظيمه
-- امتلك الخصوم قدرة هائلة على التواصل، حيث تألق الاتحاد السوفياتي وروسيا بصمتهما أو بدعاية في قطيعة مع الواقع
-- يبدو أن هذا الوضع سيؤدي إلى حرب مجمدة مع عواقب دولية أكثر خطورة بكثير من تلك المرتبطة بحرب دونباس 2014
إذا قارنا الحرب الحالية في أوكرانيا بنزاعين سابقين شارك فيهما الجيش السوفياتي والروسي -الحرب السوفياتية الفنلندية عام 1939 والحرب الأولى في الشيشان في 1994-1996 -يمكننا فقط أن نتفاجأ من أوجه التشابه بينهما. ومع ذلك، فإن السياقات التاريخية والاجتماعية مختلفة تمامًا. ما هو القرب الذي يمكن أن يكون بين الاتحاد السوفياتي عام 1939، الذي تميز بعمليات التطهير الستالينية الرهيبة، والذي تعيش حكومته في خوف من غزو ألماني مستقبلي، وروسيا عام 1994، مجتمع في حالة انهيار كامل حيث يسود منطق المافيا، وحيث على الجيش اللجوء إلى كل أنواع مخططات المراوغة لكسب المال، وروسيا عام 2022، التي “ارتقت”، بعبارة عزيزة على فلاديمير بوتين، على مدى العقدين الماضيين؟
يظهر ثابت عند دراسة هذه الصراعات الثلاثة: مزيج من الخوف الذي يشعر به الكرملين (جنون العظمة المفرط في الاتحاد السوفياتي في عهد ستالين، والخوف من تمزيق أوصال روسيا في أوائل التسعينات، والرهبة من تمدّد الناتو عام 2022) والثقة غير المتناسبة للسلطة الروسية في جيشها، على الرغم من الجهل العميق بأسلوب عمله.
وبالمثل، في عام 1939 وعام 1994 كما في عام 2022، لم تؤخذ قوة العدو في الاعتبار بشكل كاف. يمكن فهم هذا: على الورق، اختلال توازن القوى مطلق. ومع ذلك، في كل مرة، ليست العناصر الكمية هي التي تحدد قوة الجيش السوفياتي أو الروسي، ولكن تنظيمه، الذي يرتبط ارتباطًا مباشرًا بعنصر أساسي: مستوى تحفيز رجاله، الذي يظل هشًا.
السلطة لا تعني السيطرة
لأنه إذا كان الجيش السوفياتي أو الروسي عبارة عن هيكل سلطوي، فإن طاعة رجاله غير مؤكدة. هذه هي الطريقة في 31 ديسمبر 1994، عندما أمرت هيئة الأركان العامة الروسية بدخول أربعة طوابير إلى غروزني، عاصمة الشيشان، امتثل اثنان فقط، ورفض قادة الوحدتين الأخريين الانصياع.
في تلك الحرب، كانت القدرة على قيادة وزير الدفاع، بافل غراتشيف، “تعتمد بشكل مباشر على وجوده على الأرض”. لأنه عندما تكون القوات الروسية ضعيفة الدافع والحافز، فإن الأوامر تميل إلى الضياع في صعوبات الإرسال. خلال الحرب الأولى في الشيشان، تم إنشاء نظام للسلطة كاريزمي: يجب أن يكون القائد “رائعًا” لتتم طاعته، ويجب أن يعطي شخصيًا أوامره لمرؤوسيه. هذا الوجود الإلزامي على الأرض يمكن أن يفسّر أيضًا العدد الكبير من الجنرالات الروس الذين قتلوا في الحرب الحالية في أوكرانيا.
في هذا السياق، تضطر القيادة إلى السماح للقوات بتنظيم نفسها، حتى لو كان ذلك يعني فقدان السيطرة. يمكننا أن نفهم بشكل أفضل الانتهاكات العديدة التي ارتكبتها القوات الروسية في هذه الحرب الأولى في الشيشان، حيث أن هيئة الأركان العامة كانت قلقة من المقاومة غير المؤكدة لقواتها ضد عدو شرس، أكثر من اهتمامها بالوجود المؤكد للسلوك الإجرامي.
وخلال الحرب الأولى في الشيشان، بعيدًا عن الظهور كقوات غارقة في الدعاية ومستعدة للموت من أجل الوطن الأم، تردد الجنود الروس ولم يفهموا لماذا كان لا بد من مهاجمة منطقة شعروا أنها قريبة جدًا منهم، وتضم عاصمتها غروزني ما يقرب من 29 بالمائة من الروس. لم يتم اتباع الأوامر، أو انها لم تصل إلى مستلميها. حتى أن المدفعية الروسية ستذهب عام 1996 إلى حد قصف وحدة سبيتناز التابعة لـ جهاز الأمن الفيدرالي للاتحاد الروسي في بيرفومايسكايا، والتي يكرهونها، بذريعة سوء الفهم أو أخطاء إطلاق النار.
ولأن الجيش الروسي في التسعينات كان بعيدًا عن كونه هيكلًا مترابطًا: فقد أضيف إلى الجيش، الذي يعود بالنظر الى وزارة الدفاع، وحدات وزارة الداخلية، ولكن أيضًا قوات الأمن التي يشكل جهاز الأمن الفيدرالي للاتحاد الروسي جزءً منها وتحت تسمية “القوزاق” قوات غير نظامية. وقوات وحدات وزارة الداخلية، المشهورة بقسوتها ومستوى فسادها العالي ونجاعتها، مكروهة بشكل خاص من قبل المجندين الذين يشكلون الجزء الأكبر من القوات. وهكذا، لئن مارس الكرملين سلطته المطلقة على قواته المسلحة، فإنه لا يسيطر عليها فعلاً، وهو ما سيحدث أيضًا أثناء الحرب الثانية في الشيشان، التي سجّل فيها الانتصار هذه المرة، ونفذت في ظل قيادة فلاديمير بوتين.
حدثت هذه الظاهرة أيضًا أثناء الحرب السوفياتية الفنلندية: فقد أدرك الجنود بسرعة التناقض بين الدعاية السوفياتية للنظام الستاليني والواقع على الأرض: كان الفنلنديون بعيدين عن كونهم برابرة ينتظرون بفارغ الصبر تحريرهم من قبل القوات السوفياتية التي وصفتها لهم الدعاية. وهكذا، إلى الرسائل العديدة من الجنود السوفيات المندهشين من كثرة القرويين الفنلنديين، ستضاف حلقات عصيان، مثل الأغاني المناهضة للحرب بعد جولات من الفودكا وبعض الفارين. ستتمكن مفوضية الشعب للشؤون الداخلية بسرعة من قمع هذه المظاهرات المعادية بإطلاق النار على الفارين والهاربين.
العدو يعرف دائما
كيف يتواصل
في هذين النزاعين السابقين، تعرضت القوات الروسية لمعاملة رهيبة في مواجهة قوة حرب عصابات شديدة الفعالية. ولئن ركز الجيش الفنلندي على أرتال الحرس الخلفي التي دمروها بشكل منهجي، فإن الشيشانيين نفذوا أعمالًا مرهقة أكثر باستخدام القناصة، والتدمير المنهجي لأرتال الإمداد، وإطلاق النار على سيارات الإسعاف، وحتى إطلاق النار من حين لآخر من المستشفيات من أجل تحريض الجنود الروس على الرد والقدرة على تسليط الضوء على وحشية هذا الأخير.
وإذا كان الشيشانيون عنيفين بشكل خاص تجاه الجنود الروس، لم يكن هذا هو الحال مع الفنلنديين الذين ارتكبوا بعض الانتهاكات في بداية الحرب، ولكن سرعان ما دعتهم حكومتهم الى الانضباط، لأن تلك الإجراءات المعزولة ستضعف الخطة الاتصالية الموجهة للعالم.
في هاتين الحربين، أثبت الفنلنديون والشيشانيون أنهما يملكان قدرة هائلة على الاتصال، حيث تألق الاتحاد السوفياتي وروسيا بصمتهما أو بدعاية في قطيعة مع الواقع. وإذا كان المضمون الاتصالي للشيشانيين والفنلنديين يهدف إلى تعبئة المجتمع الدولي، فإن اتصال موسكو يهدف قبل كل شيء إلى إخفاء حقيقة الحرب والوضع الصعب الذي يمر به الجيش، ان لم يكن حجم عدد الجنود الذين قتلوا، عن الشعب.
حرص الشيشانيون على أن يُظهروا للعالم العديد من الدبابات الروسية المدمرة، وقصف المباني المدنية، والانتهاكات العديدة التي ارتكبتها القوات الروسية. ونشر الفنلنديون، قبل أكثر من خمسين عامًا، صورًا لجنود سوفيات ميتين مجمدين، كاشفة عن الضعف اللوجستي لجيش العدو.
لقد وصفوا أيضًا الجنود السوفيات بأنهم كائنات لا يمكن السيطرة عليهم “غير قادرين على رؤية سلطوية أسيادهم والرد عليها”، في المقابل تعرض هلسنكي “كرامة وشجاعة وفحولة ومثابرة وضبط النفس” لدى الجيش الفنلندي. وبذلك، نجحوا في إطلاق العنان لحركة تعاطف حقيقية من الدول الغربية تجاههم، بل وحصلوا على نتيجة تحسدهم عليها الحكومة الأوكرانية الحالية: الوعد بالتدخل المسلح من قبل فرنسا، والذي لم ينجز. لقد ذهب إدوارد دالاديير، رئيس المجلس، الذي يشعر بحساسية خاصة تجاه روح المقاومة لدى الفنلنديين، إلى حد اقتراح التدخل العسكري، مما أدى إلى إزعاج كاي دورسيه، الذي لم يفهم كيف يتسنّى الدخول في صراع مع الاتحاد السوفياتي بينما فرنسا والمملكة المتحدة في حالة حرب مع ألمانيا النازية.
حروب على مرحلتين
في كلتا الحالتين، دارت الحرب على مرحلتين.
إذا كانت الأولى مجرد سلسلة من الإخفاقات العسكرية، فإن الثانية هي مناسبة لإعادة تنظيم الجهاز العسكري السوفياتي ثم الروسي، مما اعطى نتائج أكثر إقناعًا. بالنسبة للحرب الشيشانية، سمحت المرحلة الثانية بالاستيلاء على عاصمتها غروزني، على حساب العديد من القتلى المدنيين ودمار هائل. وبالنسبة لحرب الشتاء، قرر السوفيات التخلي عن خطتهم الأولية لغزو فنلندا وإعادة التركيز على الاستحواذ على مناطق ذات قيمة استراتيجية عالية.
في الحالتين، كان الأسلوب العسكري المستخدم هو نفسه: القصف المكثف من أجل الاستفادة من المدفعية المتفوقة بشكل لا نهائي، والتقدم البطيء والمنهجي بشكل جيد بما يتعارض والتقاليد العقائدية للجيش السوفياتي. وإذا كان من الممكن في حالة حرب الشتاء التوصل إلى هدنة، الأمر الذي أثار ردود فعل عدائية من السكان الفنلنديين، فقد اختلف الأمر في الشيشان. بعد الانتصار الأول، تم طرد القوات الروسية على حين غرة من غروزني بعد بضعة أشهر، وكان عليها إبرام هدنة تعترف بحكم الأمر الواقع باستقلال الشيشان.
هل ما زالت الهدنة ممكنة؟
بعد الدروس المستفادة من هاتين الحربين، لا يسع المرء إلا أن يشك في إمكانية التوصل إلى هدنة للحرب الحالية في أوكرانيا.
خلال الحرب مع فنلندا، أراد السوفيات تحرير قواتهم المسلحة للسماح لها بالاستعداد لمواجهة لاحقة مع ألمانيا حيث كان الجيش الفنلندي على وشك الانهيار. فيما يتعلق بالحرب الشيشانية الأولى، كان مستوى تفكك المجتمع الروسي الى درجة أن الكرملين شعر بأنه مضطر لتوقيع هدنة. ولم يكن الأمر كذلك في الحرب الحالية في أوكرانيا، حيث لن يشعر أي من الطرفين المتحاربين بأنه ملزم بقبول وقف إطلاق النار.
وإذا كانت روسيا قد تكبدت خسائر كبيرة، فهي ليست عرضة لتهديد حيوي يجبرها على إنهاء الحرب بالتخلي عن فتوحاتها؛ أما بالنسبة لأوكرانيا، فهي تستفيد من الدعم الخارجي، الذي افتقدته فنلندا عام 1940، والذي يسمح لها بمقاومة ورفض التنازلات الإقليمية المفرطة. ويبدو أن هذا الوضع سيؤدي إلى حرب مجمدة مع عواقب دولية أكثر خطورة بكثير من تلك المرتبطة بحرب دونباس 2014 *دكتور في العلوم الإدارية- باحث مشارك بـ مختبر البحث متعدد التخصصات في علوم العمل، المعهد الوطني للفنون والحرف.
 
							 
							 
							 
								 
                                
                                       
                                
                                       
                                
                                       
                                
                                       
					 
                                                                       
                                                                       
                                                                       
                                                                       
					