تغيّر ميزان القوى بين بلدين متنافسين
في فخ ثيوسيديدز: نحو حرب بين أمريكا والصين...؟
-- ستقلل معرفة أفضل بثقافة الآخر من قوة العوامل التي تشجع على اندلاع الحرب
-- الوضع الداخلي، عامل حاسم آخر يمكن أن يرجّـح الـحرب أو السلام
-- يجعل تقدّم الصين من الصعب ضمان استدامة عالم بزعامة أمريكية
-- يمكن للمجتمع الثقافي، ولفهم أكثر وضوحا للآخر، أن يلعبا دورا سلميا
-- هل تستطيع الولايات المتحدة أن تزدهر في عالــم تقـــرر فيـــه الصين القواعـــــد؟
-- يجب على الصين أيضًا أن تتغير، دون أن تخون هويتها
إن عدم ثقة العالم الغربي بالصين ليست وليدة الأمس: التقليل بداية من خطورة وباء لفيروس كورونا، والإحصاءات الصينية المريبة، واعتقالات الأطباء الذين أرادوا تنبيه العالم إلى مخاطر الوباء، سارعت جمبعها في عكس اتجاه الرأي العام العالمي الجاري اصلا: يثير رجل الصين الأول القلق بإحالاته وإشاراته إلى الماوية والماركسية، ومن خلال القمع الذي يمارس ضد الأويغور في شينجيانغ، وطلاب هونغ كونغ، وفي النهاية من خلال التهديدات ضد تايوان. الا ان جذور هذا التغيير في الإدراك أبعد من ذلك: فهو ليس ناجما فقط وانما على ارتباط بالتطور الاقتصادي والعسكري غير العادي للصين، التي بصدد، وبسرعة مذهلة -اللحاق بل وحتى التفوق في مجالات معينة على الولايات المتحدة
.
هذه هي الفرضية التي قدمها غراهام أليسون، الأستاذ المميز في العلـــوم السياسية، في جامعة هارفارد ومستشار العديد من الرؤساء الأمريكيين، في عمله الذي تُرجم مؤخرًا إلى الفرنسية: غراهام أليسون، نحو الحرب، أمريكا والصين في فخ ثيوسيديدز؟
المسألة الرئيسية للكتاب هي: الا يؤدي هذا التصور الجديد، السلبي للغاية، للصين الى فتح ظرفية خطيرة بشكل خاص على المستوى الجيوسياسي، ظرفية يعرّفها المؤلف تحت اسم فخ ثيوسيديدز؟ ان التطور السريع للغاية للقوة الصينية، أو بعبارة أخرى، التباين المتنامي في الأداء بين القوة الصينية الصاعدة والقوة التي لا تزال مهيمنة، الولايات المتحدة، بالإضافة إلى الخوف، وفي كل الاحوال القلق والشك الذي يثيره هذا التباين، هما العنصران المكونان، لفكي “فخ ثيوسيديدز “ الرهيب.
هذا هو الفخ: مزيج من المعطيات الموضوعية التي يمكن قياسها بسهولة من حيث الناتج المحلي الإجمالي أو إنتاج الصلب أو أجهزة الكمبيوتر من ناحية، والشعور بالخوف من جهة أخرى. فخ كان يعمل قبل 1500 عام بما أنه أطبق على سبارتا وأثينا. سبارتا، القوة المهيمنة، التي انتهت ببدا الحرب عندما شعرت بالتهديد الشديد من قبل أثينا، القوة الصاعدة. “كان الخوف الذي استبد بسبارتا من صعود أثينا هو الذي جعل الحرب حتمية”، كتب ثيوسيديدز. وهكذا كانت ولادة الحرب البيلوبونيسية
.
غالبًا ما يعود الكتاب إلى هذه الحرب الشهيرة في العصور القديمة، لكنه يفحص أيضًا العديد من الحالات الأخرى -ستة عشر بالضبط –عمل فيها او اختل “الفخ”. على مر التاريخ، كلما تسببت القوى الصاعدة في قلق القوى المهيمنة في ذلك الوقت، الا ولاحت الحرب في الأفق، وكثيرا ما اندلعت: من أصل 16 حالة تم فحصها، انتهت 12 بالحرب.
لا شك أن القارئ المتعلق بخصوصية العيوب التاريخية سيقلق من صياغة مثل هذا القانون العام، خاصة أنّ أليسون يحكم بانه صالح عالميًا وحتى خارج مجاله الجيوسياسي
.
في نظر غراهام أليسون، لا حاجة للدخول في تحليل النظام السياسي في الصين. إن التطور الشامل هو ما يهم، الى جانب نوع التأثير الذي يمكن أن يحدثه هذا التطور السريع على الرأي العام وصناع القرار في الولايات المتحدة. يحدث نوع من التأثير الميكانيكي، كما لو انه بتجاوز سقف معين من القلق – وتقنين هذا القلق في شكل اراء مسبقة عدائية، ونقد وتهديدات – تندلع الحرب.
عن صعود الصين الصاروخي، تتحدث البيانات والمعطيات التي قدمها أليسون عن نفسها: عام 1980، كان الناتج المحلي الإجمالي الصيني 7 بالمائة من نظيره في الولايات المتحدة. عام 2015، 61 بالمائة. هناك حتى مجالات تجاوزت فيها الصين الولايات المتحدة فعلا: أليست “أكبر منتج للسفن والصلب والألمنيوم والأثاث، والملابس والهواتف المحمولة والأدوية وأجهزة الكمبيوتر؟ هل ما زلنا نريد بعض الأمثلة الأخرى، متباينة ولكنها دقيقة؟
- بين 2011 و 2013 ، أنتجت الصين واستخدمت من الأسمنت أكثر من الولايات المتحدة طوال القرن العشرين بأكمله!
- ارتفع متوسط دخل الفرد من 193 دولارًا عام 1980 إلى أكثر من 8100 اليوم.
- عام 2015 ، قدم الصينيون ما يقرب من ضعف عدد طلبات البراءات من الأمريكيين.
- أفضل حاسوب عملاق صيني أسرع بخمس مرات من أقرب منافسيه الأمريكيين.
في ظل هذه الظروف، ليس مستغربا أن تزن الصين بشدة في الشؤون العالمية، فقط من خلال التأثير الميكانيكي لأدائها الاقتصادي المتزايد. وسيجد قارئ 2020 بسهولة في نشرات الأخبار أصداء الملاحظات التي أشار إليها أليسون: “ الصين تشتري وتبيع وتعاقب وتستثمر وتستخدم الرشاوي وتسرق إذا لزم الأمر، حتى تحصل على اصطفاف شركائها
.
ان الدول التي أصبحت مرتهنة في وارداتها الحيوية الى الصين أو على الأسواق الصينية في صادراتها، هشّة بشكل خاص: في حالة الخلاف، يكفي الصين فقط تأجيل الأولى ومنع الثانية”. نذكر أنها “توقفت عام 2011 عن شراء سمك السلمون من السويد، وكانت أول حرفائها (لمعاقبة لجنة جائزة نوبل للسلام، التي منحت في ذلك العام للمعارض الشهير ليو شياوبو)”. وقد خفضت مؤخرًا وارداتها من فول الصويا الأسترالي عندما أرادت أستراليا إجراء تحقيق دولي في أصول فيروس كورونا.
بطبيعة الحال، سنرى في هذه الضغوط، التي هي غير ديمقراطية وغير مبالية بالقانون، مظهرًا من مظاهر الصين الشمولية والمعادية للديمقراطية على الأقل. الا ان غراهام أليسون لا يدخل في هذه الاعتبارات. العامل الحاسم في ظهور فخ ثيوسيديدز هو ببساطة تغيّر موازين القوى بين بلدين متنافسين. فمن وجهة نظره، طبيعتهما السياسية لا تهم
.
علاوة على ذلك، في المثال النموذجي، نفس الشيء الذي يعلق عليه ثيوسيديدز، الدولة المهيمنة التي تخشى على هيمنتها، هي سبارتا، آلة حربية من الدرجة الأولى يثير ذعرها الصعود الصاروخي لأثينا الديمقراطية، حامية الفنون والآداب.
بالتأكيد، أن ديمقراطيتها نخبوية، لكنها حقيقية، في حين أن الدولة المهدّدة أو التي تشعر بالتهديد، هي سبارتا العسكرية. وبالتالي، فإن ما يهم أليسون هو استيعاب وتصور التهديد الذي تشكله أثينا. هذا الشعور بالتهديد هو الذي يفسر سبب اختيار سبارتا للحرب، حرب مدفوعة بالمصلحة القومية، والخوف والشعور بالشرف الذي بلغ ذروته
.
هل يمكن إجراء تحليل مماثل للعلاقات بين الصين والولايات المتحدة؟
يجب أن تُأخذ في الاعتبار حقيقة أن الصين بزعامة شي جين بينغ، تريد بشكل أساسي استعادة عظمتها السابقة، حلم الرفاه والقوة. وينقسم هذا البرنامج على النحو التالي:
استعادة الزعامة الآسيوية التي كانت تتمتع بها قبل وصول الغرب إلى الصين في القرن التاسع عشر.
- استعادة سيطرتها على الإمبراطورية ، من تايوان (ضمنا) إلى التبت.
- استعادة منطقة نفوذها على طول حدودها وفي البحار المجاورة.
- أن تكون محترمة من قوى عظمى أخرى، وخاصة في المحافل الدولية.
ولتحقيق هذه الأهداف المختلفة، “إعادة حيويّة الحزب الشيوعي الصيني، والنفخ في الروح القومية، وتنفيذ إصلاح اقتصادي جديد للحفاظ على النمو السريع، وإعادة تنظيم الجيش الصيني”. ويتعلق هذا الصعود الصاروخي المبرمج بجميع المجالات في نفس الوقت. ويعدّ مشروع طرق الحرير الجديد الشهير، اقتصاديًا وجيوسياسيًا ومدنيًا وعسكريًا.
لكن الاصطدام الاكبر، والتعارض الأكثر وضوحا، والأكثر ملاءمة لسوء الفهم، والخلافات، وبالتالي الصدامات بين الصين والولايات المتحدة، هو ثقافي. ويعلن أليسون هنا أنه من أتباع صموئيل هنتنغتون. ما هي العوائق أمام الولايات المتحدة والصين في هذا الصدد؟ الفردية الأمريكية، وتعلقها بالحرية والمساواة في الحقوق، هي في تضاد مع الأخلاقيات الكونفوشيوسية، التي تعلي من شان السلطوية والتسلسل الهرمي، وخضوع الحقوق والمصالح الفردية.
وللإحالة العرقية الخاصة بالصين وحدها، يقدم الأمريكيون والغرب إحالة كونية، ويقولون إنهم لا يدافعون عن قيمهم، وانما عن القيم الكونية.
إن الخطر الذي تشكله هذه الاختلافات حقيقي. وإن القضية المطروحة هي شرعية السلطة المنافسة. ولما كان المرجع الأمريكي فرديًا، فان الشرعية السياسية لأي حكومة تنبع من موافقة المحكومين. وبالنسبة للصينيين، تعتمد الشرعية السياسية على النتائج التي تم تحقيقها، وفي حالة الصين، تبرر النتائج حتى وجود الحزب الواحد، بينما حتى الآن لم تسفر أنظمة الحزب الواحد الا عن نتائج ملتبسة.
إن هذه الشرعية محل تشكيك الغرب، وخاصة الأمريكان الذين يقدمون، باسم حقوق الانسان، معايير أخرى للشرعية غير تلك التي تعترف بها غالبية الصينيين. في المقابل، كما قال دينغ ذات مرة، في عيون القادة الصينيين، “الخطابات حول حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية تهدف فقط إلى حماية مصالح الدول القوية والغنية، التي (...) تسعى للهيمنة من خلال ممارسة سياسة القوة«.
ان “الحرب بين الولايات المتحدة والصين ليست حتمية” في نظر أليسون، لكنها ممكنة. إن حدثًا عارضا وغير ضار، في سياق غير التوتر الكامن الناجم عن صعود الصين الذي لا يمكن السيطرة عليه، يمكن أن يؤدي إلى صراع واسع النطاق. فمن خلال الرد على الترهيب، أو محاولة فرض التزامات طويلة الأمد، أو المطالبة بالاحترام الذي تستحقه دولتهم، يمكن لقادة البلدين أن يقعوا في فخ يعرفون أنه موجود ولكنهم يعتقدون أنه بإمكانهم تفاديه.
بعد التعرف على المخاطر، ما هي المكونات التي تبيّن عبر التاريخ انها عوامل، إن لم تكن للسلام، فهي على الأقل لخفض التوترات؟
إن الخضوع للسلطات الدولية سيكون مفيدا. وهذه اليوم محدودة للغاية. وهيبة الأمم المتحدة في الحضيض.
يمكن أن يساعد دمج القوة الصاعدة والقوة المهيمنة في المؤسسات الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية في السيطرة على جموح صناع القرار المناصرين للحرب.
ضمان آخر يتمثل في التضحية بما هو ثانوي لحماية الأساسي من أجل تامين استدامة الأمة الخاضعة للمنافسة. ان قضية التحالفات مهمة أيضا. فهيا مفيدة للتصدي في مواجهة، لكنها تضاعف أيضًا فرص الخصومات القضائية وبالتالي النزاعات.
هناك عامل حاسم آخر يمكن أن يلعب لصالح السلام أو الحرب. وهو الوضع الداخلي. من الايجابي أن يكون لديك أقوى اقتصاد، وأكثر الحكومات كفاءة، وأوسع
دعم شعبي. لقد فشل الاتحاد السوفياتي في أخذ مكان الولايات المتحدة كزعيم عالمي لأن نظامه الاقتصادي لم يكن فعالا.
وكان دعمه الشعبي يضعف. من ناحية أخرى، حققت الصين نجاحًا ملحوظًا في هذه المجالات.
أخيرا، يمكن للمجتمع الثقافي، وفهم اوضح للآخر. أن يلعبا دورا سلميا. ويظهر هذا بوضوح عندما تنازلت بريطانيا العظمى في نهاية القرن التاسع عشر عن الزعامة العالمية للولايات المتحدة. وبين الولايات المتحدة والصين، ستقلل معرفة أفضل بثقافة الآخر من قوة العوامل التي تشجع على اندلاع الحرب.
اية حرب؟ إن الأسلحة النووية تستبعد المواجهة المباشرة. وتشجع الإبقاء على الوضع الراهن. ونقل المواجهة اقتصاديًا وسياسيًا وأيديولوجيًا. وكذلك نحو مواجهات عسكرية محدودة في الزمان والمكان ومن حيث الحدّة. ولكن بالنسبة لأليسون، فإن كلًا من الحرب الاقتصادية والحرب النووية أمر غير محتمل جدًا
-ففي الحالتين -ترابطهما. فالولايات المتحدة هي أكبر سوق للصادرات الصينية. والصين هي أكبر دائن لها. و”إذا منعت الحرب الولايات المتحدة من شراء سلع صينية والصين من شراء الدولارات، فإن العواقب الاقتصادية والاجتماعية السلبية لكل من البلدين تفوق بكثير الفوائد المحتملة للصراع.»
ما العمل؟ المشكلة لا مفر منها: “لا يوجد حل للانبعاث المذهل لحضارة عمرها 5000 عام. ويبلغ عدد سكانها مليار وأربعمائة مليون فرد، والتي لا يمكن مقارنة نموها الاقتصادي مع نمو الولايات المتحدة”. ان تقدم الصين هذا. يجعل “من الصعب بشكل متزايد ضمان استدامة عالم بزعامة الولايات المتحدة».
ومع ذلك هل يجب الحفاظ على التفوق العسكري. وهل تستطيع الولايات المتحدة أن تزدهر في عالم تقرر فيه الصين القواعد؟
هذه الأسئلة مرعبة بالنسبة لنا، نحن الذين لدينا كل أسباب الخوف من أن تتحدى الصين حريتنا الفردية بشكل فعال. يبدو أن غراهام أليسون غير مدرك أن الرهان لا يمكن اختزاله في مجرد ازدهار. وما العمل لو أردنا تجنب هزيمة الديمقراطيات مع نبذ المواجهة العسكرية؟
التكيف مع الوضع الجديد؟ التكيّف، كما يلاحظ أليسون، ليس مخزياً بالضرورة، لكنه يعني خطوة إلى الوراء: الالتزام بدعم تايوان ولكن الاعتراف بحقوق الصين في بحر الصين الجنوبي، أو الانسحاب من كوريا الجنوبية مقابل نزع السلاح النووي لكوريا الشمالية من قبل الصين ...
زعزعة الخصم؟ بدون وضع حد للتبادل التجاري أو الدبلوماسي، من الممكن دائمًا تشجيع مقاومة تايوان، تشجيع الرغبة في الحرية السياسية لعدد معين من الشباب الصينيين، ودعم المنشقين والأقليات الدينية بشكل أفضل.
التفاوض من اجل السلام على المدى الطويل؟ هذا لا يتعارض مع ما سبق. قد يتم توقيع اتفاقيات مماثلة لتلك التي تم التوقيع عليها مع الاتحاد السوفياتي بشأن الأسلحة النووية على الأسلحة السيبرانية والأسلحة البيولوجية.
إعادة تعريف العلاقات الثنائية؟ من الممكن الاتفاق على مجالات نفوذ معينة.
يقول أليسون، يجب أن نتصرف بسرعة. لا يمكن لأمريكا أن يكون هدفها الحفاظ على الوضع الراهن، في كل الأحوال هذا مستحيل. يجب أولا أن نفتح نقاشا كبيرا، وتمعّنا كبيرا حول ما هي الولايات المتحدة وما يعنيه التقدم الصيني المذهل. لذلك من المناسب، سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية، أن تستعيد الحوكمة الفدرالية “معنى المسؤولية والسلوك المواطني الحضاري” (كنا نتمنى المزيد من الدقة حول ما يقصده بذلك!).
يجب على الصين أيضًا أن تتغير، دون أن تخون هويتها: “إنها تعاني من غياب دولة القانون، ومن سيطرة مركزية مفرطة، وأغلال العادات الثقافية التي تؤثر على الخيال والإبداع، وكذلك من عدم قدرتها على جذب واستيعاب مواهب المجتمعات الأجنبية”. غير ان التغلب على كل هذا لن يحدث بين عشية وضحاها.
إذن مرة أخرى: “حرب غير محتملة، وسلام مستحيل”؟
-- الوضع الداخلي، عامل حاسم آخر يمكن أن يرجّـح الـحرب أو السلام
-- يجعل تقدّم الصين من الصعب ضمان استدامة عالم بزعامة أمريكية
-- يمكن للمجتمع الثقافي، ولفهم أكثر وضوحا للآخر، أن يلعبا دورا سلميا
-- هل تستطيع الولايات المتحدة أن تزدهر في عالــم تقـــرر فيـــه الصين القواعـــــد؟
-- يجب على الصين أيضًا أن تتغير، دون أن تخون هويتها
إن عدم ثقة العالم الغربي بالصين ليست وليدة الأمس: التقليل بداية من خطورة وباء لفيروس كورونا، والإحصاءات الصينية المريبة، واعتقالات الأطباء الذين أرادوا تنبيه العالم إلى مخاطر الوباء، سارعت جمبعها في عكس اتجاه الرأي العام العالمي الجاري اصلا: يثير رجل الصين الأول القلق بإحالاته وإشاراته إلى الماوية والماركسية، ومن خلال القمع الذي يمارس ضد الأويغور في شينجيانغ، وطلاب هونغ كونغ، وفي النهاية من خلال التهديدات ضد تايوان. الا ان جذور هذا التغيير في الإدراك أبعد من ذلك: فهو ليس ناجما فقط وانما على ارتباط بالتطور الاقتصادي والعسكري غير العادي للصين، التي بصدد، وبسرعة مذهلة -اللحاق بل وحتى التفوق في مجالات معينة على الولايات المتحدة
.
هذه هي الفرضية التي قدمها غراهام أليسون، الأستاذ المميز في العلـــوم السياسية، في جامعة هارفارد ومستشار العديد من الرؤساء الأمريكيين، في عمله الذي تُرجم مؤخرًا إلى الفرنسية: غراهام أليسون، نحو الحرب، أمريكا والصين في فخ ثيوسيديدز؟
المسألة الرئيسية للكتاب هي: الا يؤدي هذا التصور الجديد، السلبي للغاية، للصين الى فتح ظرفية خطيرة بشكل خاص على المستوى الجيوسياسي، ظرفية يعرّفها المؤلف تحت اسم فخ ثيوسيديدز؟ ان التطور السريع للغاية للقوة الصينية، أو بعبارة أخرى، التباين المتنامي في الأداء بين القوة الصينية الصاعدة والقوة التي لا تزال مهيمنة، الولايات المتحدة، بالإضافة إلى الخوف، وفي كل الاحوال القلق والشك الذي يثيره هذا التباين، هما العنصران المكونان، لفكي “فخ ثيوسيديدز “ الرهيب.
هذا هو الفخ: مزيج من المعطيات الموضوعية التي يمكن قياسها بسهولة من حيث الناتج المحلي الإجمالي أو إنتاج الصلب أو أجهزة الكمبيوتر من ناحية، والشعور بالخوف من جهة أخرى. فخ كان يعمل قبل 1500 عام بما أنه أطبق على سبارتا وأثينا. سبارتا، القوة المهيمنة، التي انتهت ببدا الحرب عندما شعرت بالتهديد الشديد من قبل أثينا، القوة الصاعدة. “كان الخوف الذي استبد بسبارتا من صعود أثينا هو الذي جعل الحرب حتمية”، كتب ثيوسيديدز. وهكذا كانت ولادة الحرب البيلوبونيسية
.
غالبًا ما يعود الكتاب إلى هذه الحرب الشهيرة في العصور القديمة، لكنه يفحص أيضًا العديد من الحالات الأخرى -ستة عشر بالضبط –عمل فيها او اختل “الفخ”. على مر التاريخ، كلما تسببت القوى الصاعدة في قلق القوى المهيمنة في ذلك الوقت، الا ولاحت الحرب في الأفق، وكثيرا ما اندلعت: من أصل 16 حالة تم فحصها، انتهت 12 بالحرب.
لا شك أن القارئ المتعلق بخصوصية العيوب التاريخية سيقلق من صياغة مثل هذا القانون العام، خاصة أنّ أليسون يحكم بانه صالح عالميًا وحتى خارج مجاله الجيوسياسي
.
في نظر غراهام أليسون، لا حاجة للدخول في تحليل النظام السياسي في الصين. إن التطور الشامل هو ما يهم، الى جانب نوع التأثير الذي يمكن أن يحدثه هذا التطور السريع على الرأي العام وصناع القرار في الولايات المتحدة. يحدث نوع من التأثير الميكانيكي، كما لو انه بتجاوز سقف معين من القلق – وتقنين هذا القلق في شكل اراء مسبقة عدائية، ونقد وتهديدات – تندلع الحرب.
عن صعود الصين الصاروخي، تتحدث البيانات والمعطيات التي قدمها أليسون عن نفسها: عام 1980، كان الناتج المحلي الإجمالي الصيني 7 بالمائة من نظيره في الولايات المتحدة. عام 2015، 61 بالمائة. هناك حتى مجالات تجاوزت فيها الصين الولايات المتحدة فعلا: أليست “أكبر منتج للسفن والصلب والألمنيوم والأثاث، والملابس والهواتف المحمولة والأدوية وأجهزة الكمبيوتر؟ هل ما زلنا نريد بعض الأمثلة الأخرى، متباينة ولكنها دقيقة؟
- بين 2011 و 2013 ، أنتجت الصين واستخدمت من الأسمنت أكثر من الولايات المتحدة طوال القرن العشرين بأكمله!
- ارتفع متوسط دخل الفرد من 193 دولارًا عام 1980 إلى أكثر من 8100 اليوم.
- عام 2015 ، قدم الصينيون ما يقرب من ضعف عدد طلبات البراءات من الأمريكيين.
- أفضل حاسوب عملاق صيني أسرع بخمس مرات من أقرب منافسيه الأمريكيين.
في ظل هذه الظروف، ليس مستغربا أن تزن الصين بشدة في الشؤون العالمية، فقط من خلال التأثير الميكانيكي لأدائها الاقتصادي المتزايد. وسيجد قارئ 2020 بسهولة في نشرات الأخبار أصداء الملاحظات التي أشار إليها أليسون: “ الصين تشتري وتبيع وتعاقب وتستثمر وتستخدم الرشاوي وتسرق إذا لزم الأمر، حتى تحصل على اصطفاف شركائها
.
ان الدول التي أصبحت مرتهنة في وارداتها الحيوية الى الصين أو على الأسواق الصينية في صادراتها، هشّة بشكل خاص: في حالة الخلاف، يكفي الصين فقط تأجيل الأولى ومنع الثانية”. نذكر أنها “توقفت عام 2011 عن شراء سمك السلمون من السويد، وكانت أول حرفائها (لمعاقبة لجنة جائزة نوبل للسلام، التي منحت في ذلك العام للمعارض الشهير ليو شياوبو)”. وقد خفضت مؤخرًا وارداتها من فول الصويا الأسترالي عندما أرادت أستراليا إجراء تحقيق دولي في أصول فيروس كورونا.
بطبيعة الحال، سنرى في هذه الضغوط، التي هي غير ديمقراطية وغير مبالية بالقانون، مظهرًا من مظاهر الصين الشمولية والمعادية للديمقراطية على الأقل. الا ان غراهام أليسون لا يدخل في هذه الاعتبارات. العامل الحاسم في ظهور فخ ثيوسيديدز هو ببساطة تغيّر موازين القوى بين بلدين متنافسين. فمن وجهة نظره، طبيعتهما السياسية لا تهم
.
علاوة على ذلك، في المثال النموذجي، نفس الشيء الذي يعلق عليه ثيوسيديدز، الدولة المهيمنة التي تخشى على هيمنتها، هي سبارتا، آلة حربية من الدرجة الأولى يثير ذعرها الصعود الصاروخي لأثينا الديمقراطية، حامية الفنون والآداب.
بالتأكيد، أن ديمقراطيتها نخبوية، لكنها حقيقية، في حين أن الدولة المهدّدة أو التي تشعر بالتهديد، هي سبارتا العسكرية. وبالتالي، فإن ما يهم أليسون هو استيعاب وتصور التهديد الذي تشكله أثينا. هذا الشعور بالتهديد هو الذي يفسر سبب اختيار سبارتا للحرب، حرب مدفوعة بالمصلحة القومية، والخوف والشعور بالشرف الذي بلغ ذروته
.
هل يمكن إجراء تحليل مماثل للعلاقات بين الصين والولايات المتحدة؟
يجب أن تُأخذ في الاعتبار حقيقة أن الصين بزعامة شي جين بينغ، تريد بشكل أساسي استعادة عظمتها السابقة، حلم الرفاه والقوة. وينقسم هذا البرنامج على النحو التالي:
استعادة الزعامة الآسيوية التي كانت تتمتع بها قبل وصول الغرب إلى الصين في القرن التاسع عشر.
- استعادة سيطرتها على الإمبراطورية ، من تايوان (ضمنا) إلى التبت.
- استعادة منطقة نفوذها على طول حدودها وفي البحار المجاورة.
- أن تكون محترمة من قوى عظمى أخرى، وخاصة في المحافل الدولية.
ولتحقيق هذه الأهداف المختلفة، “إعادة حيويّة الحزب الشيوعي الصيني، والنفخ في الروح القومية، وتنفيذ إصلاح اقتصادي جديد للحفاظ على النمو السريع، وإعادة تنظيم الجيش الصيني”. ويتعلق هذا الصعود الصاروخي المبرمج بجميع المجالات في نفس الوقت. ويعدّ مشروع طرق الحرير الجديد الشهير، اقتصاديًا وجيوسياسيًا ومدنيًا وعسكريًا.
لكن الاصطدام الاكبر، والتعارض الأكثر وضوحا، والأكثر ملاءمة لسوء الفهم، والخلافات، وبالتالي الصدامات بين الصين والولايات المتحدة، هو ثقافي. ويعلن أليسون هنا أنه من أتباع صموئيل هنتنغتون. ما هي العوائق أمام الولايات المتحدة والصين في هذا الصدد؟ الفردية الأمريكية، وتعلقها بالحرية والمساواة في الحقوق، هي في تضاد مع الأخلاقيات الكونفوشيوسية، التي تعلي من شان السلطوية والتسلسل الهرمي، وخضوع الحقوق والمصالح الفردية.
وللإحالة العرقية الخاصة بالصين وحدها، يقدم الأمريكيون والغرب إحالة كونية، ويقولون إنهم لا يدافعون عن قيمهم، وانما عن القيم الكونية.
إن الخطر الذي تشكله هذه الاختلافات حقيقي. وإن القضية المطروحة هي شرعية السلطة المنافسة. ولما كان المرجع الأمريكي فرديًا، فان الشرعية السياسية لأي حكومة تنبع من موافقة المحكومين. وبالنسبة للصينيين، تعتمد الشرعية السياسية على النتائج التي تم تحقيقها، وفي حالة الصين، تبرر النتائج حتى وجود الحزب الواحد، بينما حتى الآن لم تسفر أنظمة الحزب الواحد الا عن نتائج ملتبسة.
إن هذه الشرعية محل تشكيك الغرب، وخاصة الأمريكان الذين يقدمون، باسم حقوق الانسان، معايير أخرى للشرعية غير تلك التي تعترف بها غالبية الصينيين. في المقابل، كما قال دينغ ذات مرة، في عيون القادة الصينيين، “الخطابات حول حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية تهدف فقط إلى حماية مصالح الدول القوية والغنية، التي (...) تسعى للهيمنة من خلال ممارسة سياسة القوة«.
ان “الحرب بين الولايات المتحدة والصين ليست حتمية” في نظر أليسون، لكنها ممكنة. إن حدثًا عارضا وغير ضار، في سياق غير التوتر الكامن الناجم عن صعود الصين الذي لا يمكن السيطرة عليه، يمكن أن يؤدي إلى صراع واسع النطاق. فمن خلال الرد على الترهيب، أو محاولة فرض التزامات طويلة الأمد، أو المطالبة بالاحترام الذي تستحقه دولتهم، يمكن لقادة البلدين أن يقعوا في فخ يعرفون أنه موجود ولكنهم يعتقدون أنه بإمكانهم تفاديه.
بعد التعرف على المخاطر، ما هي المكونات التي تبيّن عبر التاريخ انها عوامل، إن لم تكن للسلام، فهي على الأقل لخفض التوترات؟
إن الخضوع للسلطات الدولية سيكون مفيدا. وهذه اليوم محدودة للغاية. وهيبة الأمم المتحدة في الحضيض.
يمكن أن يساعد دمج القوة الصاعدة والقوة المهيمنة في المؤسسات الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية في السيطرة على جموح صناع القرار المناصرين للحرب.
ضمان آخر يتمثل في التضحية بما هو ثانوي لحماية الأساسي من أجل تامين استدامة الأمة الخاضعة للمنافسة. ان قضية التحالفات مهمة أيضا. فهيا مفيدة للتصدي في مواجهة، لكنها تضاعف أيضًا فرص الخصومات القضائية وبالتالي النزاعات.
هناك عامل حاسم آخر يمكن أن يلعب لصالح السلام أو الحرب. وهو الوضع الداخلي. من الايجابي أن يكون لديك أقوى اقتصاد، وأكثر الحكومات كفاءة، وأوسع
دعم شعبي. لقد فشل الاتحاد السوفياتي في أخذ مكان الولايات المتحدة كزعيم عالمي لأن نظامه الاقتصادي لم يكن فعالا.
وكان دعمه الشعبي يضعف. من ناحية أخرى، حققت الصين نجاحًا ملحوظًا في هذه المجالات.
أخيرا، يمكن للمجتمع الثقافي، وفهم اوضح للآخر. أن يلعبا دورا سلميا. ويظهر هذا بوضوح عندما تنازلت بريطانيا العظمى في نهاية القرن التاسع عشر عن الزعامة العالمية للولايات المتحدة. وبين الولايات المتحدة والصين، ستقلل معرفة أفضل بثقافة الآخر من قوة العوامل التي تشجع على اندلاع الحرب.
اية حرب؟ إن الأسلحة النووية تستبعد المواجهة المباشرة. وتشجع الإبقاء على الوضع الراهن. ونقل المواجهة اقتصاديًا وسياسيًا وأيديولوجيًا. وكذلك نحو مواجهات عسكرية محدودة في الزمان والمكان ومن حيث الحدّة. ولكن بالنسبة لأليسون، فإن كلًا من الحرب الاقتصادية والحرب النووية أمر غير محتمل جدًا
-ففي الحالتين -ترابطهما. فالولايات المتحدة هي أكبر سوق للصادرات الصينية. والصين هي أكبر دائن لها. و”إذا منعت الحرب الولايات المتحدة من شراء سلع صينية والصين من شراء الدولارات، فإن العواقب الاقتصادية والاجتماعية السلبية لكل من البلدين تفوق بكثير الفوائد المحتملة للصراع.»
ما العمل؟ المشكلة لا مفر منها: “لا يوجد حل للانبعاث المذهل لحضارة عمرها 5000 عام. ويبلغ عدد سكانها مليار وأربعمائة مليون فرد، والتي لا يمكن مقارنة نموها الاقتصادي مع نمو الولايات المتحدة”. ان تقدم الصين هذا. يجعل “من الصعب بشكل متزايد ضمان استدامة عالم بزعامة الولايات المتحدة».
ومع ذلك هل يجب الحفاظ على التفوق العسكري. وهل تستطيع الولايات المتحدة أن تزدهر في عالم تقرر فيه الصين القواعد؟
هذه الأسئلة مرعبة بالنسبة لنا، نحن الذين لدينا كل أسباب الخوف من أن تتحدى الصين حريتنا الفردية بشكل فعال. يبدو أن غراهام أليسون غير مدرك أن الرهان لا يمكن اختزاله في مجرد ازدهار. وما العمل لو أردنا تجنب هزيمة الديمقراطيات مع نبذ المواجهة العسكرية؟
التكيف مع الوضع الجديد؟ التكيّف، كما يلاحظ أليسون، ليس مخزياً بالضرورة، لكنه يعني خطوة إلى الوراء: الالتزام بدعم تايوان ولكن الاعتراف بحقوق الصين في بحر الصين الجنوبي، أو الانسحاب من كوريا الجنوبية مقابل نزع السلاح النووي لكوريا الشمالية من قبل الصين ...
زعزعة الخصم؟ بدون وضع حد للتبادل التجاري أو الدبلوماسي، من الممكن دائمًا تشجيع مقاومة تايوان، تشجيع الرغبة في الحرية السياسية لعدد معين من الشباب الصينيين، ودعم المنشقين والأقليات الدينية بشكل أفضل.
التفاوض من اجل السلام على المدى الطويل؟ هذا لا يتعارض مع ما سبق. قد يتم توقيع اتفاقيات مماثلة لتلك التي تم التوقيع عليها مع الاتحاد السوفياتي بشأن الأسلحة النووية على الأسلحة السيبرانية والأسلحة البيولوجية.
إعادة تعريف العلاقات الثنائية؟ من الممكن الاتفاق على مجالات نفوذ معينة.
يقول أليسون، يجب أن نتصرف بسرعة. لا يمكن لأمريكا أن يكون هدفها الحفاظ على الوضع الراهن، في كل الأحوال هذا مستحيل. يجب أولا أن نفتح نقاشا كبيرا، وتمعّنا كبيرا حول ما هي الولايات المتحدة وما يعنيه التقدم الصيني المذهل. لذلك من المناسب، سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية، أن تستعيد الحوكمة الفدرالية “معنى المسؤولية والسلوك المواطني الحضاري” (كنا نتمنى المزيد من الدقة حول ما يقصده بذلك!).
يجب على الصين أيضًا أن تتغير، دون أن تخون هويتها: “إنها تعاني من غياب دولة القانون، ومن سيطرة مركزية مفرطة، وأغلال العادات الثقافية التي تؤثر على الخيال والإبداع، وكذلك من عدم قدرتها على جذب واستيعاب مواهب المجتمعات الأجنبية”. غير ان التغلب على كل هذا لن يحدث بين عشية وضحاها.
إذن مرة أخرى: “حرب غير محتملة، وسلام مستحيل”؟