في مـــواجهة شبـــح موسكــو.. الناتـــو يطلـــق أكـــبر منــــاوراته البريـــة مـــنذ الحـــرب البـــاردة
مع تصاعد التوتر بين موسكو والعواصم الغربية، تتجه الأنظار نحو حلف شمال الأطلسي بعد إطلاق واحدة من أوسع مناوراته البرية منذ الحرب الباردة، يوم الاثنين، في كل من بلجيكا وبريطانيا والدنمارك وهولندا، تحت عنوان «Steadfast Noon».وتُجرى المناورات بمشاركة أكثر من 2000 عسكري و70 طائرة من 14 دولة، معظمها تطل على بحر الشمال، في مناطق بعيدة نسبيًا عن خطوط التماس في أوكرانيا.
وتكمن أهمية المناورات الأوروبية بحسب مراقبين، في كونها لا تختبر فقط جاهزية القوات على الأرض، بل تكرس تمازجًا غير مسبوق بين الردع النووي التقليدي والدفاعات الحديثة ضد «المسيرات» والهجمات السيبرانية.اختيار الدول الأربعة ليس مصادفة، فإلى جانب موقعها الجغرافي الحساس عند الممرات البحرية الحيوية، تحتضن بلجيكا وهولندا منشآت ضمن برنامج «المشاركة النووية» للحلف، وتمثل الدنمارك خط الدفاع الأول في الجناح الشمالي الشرقي للناتو بعد سلسلة من الحوادث الجوية التي شهدت اختراقات متكررة لطائرات روسية من دون طيار.
لكن خلف هذا المشهد الموحد، تتعمق التباينات داخل الغرب؛ فبينما تدعو أصوات أوروبية إلى رد حاسم على «الحرب الهجينة» الروسية، تُحذر أخرى من الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة، وسط جدل متصاعد حول تكاليف الإنفاق الدفاعي الذي تجاوز 930 مليار دولار حتى عام 2030.
ووفقاً للخبراء، فإن مناورات «الناتو» البرية المقررة في بلجيكا وبريطانيا والدنمارك وهولندا تمثل خطوة رمزية تتجاوز حدود «الاستعراض العسكري»، خاصة وأن أوروبا تسعى من خلالها إلى اختبار جاهزيتها الحقيقية لمواجهة التهديدات الروسية، وتعزيز مفهوم «الردع الجماعي» بين جيوشها.
وفي هذا الإطار، قال مدير مركز «فيجن» للدراسات في أوكرانيا الدكتور سعيد سلام، إن مناورات حلف شمال الأطلسي البرية تعبر عن رغبة أوروبية واضحة في الانتقال من «الاستعراض العسكري» إلى بناء جاهزية حقيقية لمواجهة التهديدات الروسية.وأكد سلام لـ«إرم نيوز»، أن المناورات تشمل تنقّلًا كثيفًا للوحدات البرية، وتدريبات على التصدي لهجمات «المسيرات» والحرب الإلكترونية، بما يعكس استعداد الناتو لاستخدام أدوات ردع متعددة في مواجهة التصعيد المحتمل مع موسكو.وأشار إلى أن هذه التحركات تحمل دلالات إستراتيجية مهمة، أبرزها تأكيد «مفهوم الردع الجماعي»، وتوجيه رسالة إلى روسيا بأن أي انتهاك لسيادة دولة عضو سيُقابل برد منسق، مضيفًا أن المناورات تمثل اختبارًا للتنسيق العملياتي بين جيوش أوروبا الغربية وتوحيد نظم القيادة والسيطرة عبر الحدود.
وأوضح أن اختيار الدول الأربع جاء وفق اعتبارات إستراتيجية دقيقة، لوقوعها قرب بحري الشمال والبلطيق، بما يسمح بمحاكاة تهديدات بحرية وجوية وهجينة متنوعة، كما أن هولندا وبلجيكا تشاركان في برنامج «المشاركة النووية»، ما يمنح المناورات بعدًا رمزيًا إضافيًا.
وتابع: «إشراك الدنمارك يعكس اهتمام الناتو بتعزيز دفاعاته على الجناح الشمالي الشرقي للحلف بعد تكرار اختراقات المسيرات لأجوائها مؤخرًا».ورأى سلام، أن الربط بين المناورات ومشروع «جدار المسيرات» الذي أقرّته قمة كوبنهاغن الأخيرة يبرز تكاملًا بين التخطيط الإستراتيجي والتدريب الميداني، لافتًا إلى أن القرار الأوروبي بإنشاء شبكة دفاعية متخصصة ضد الطائرات المسيّرة بدأ تطبيقه فعليًا ضمن هذه المناورات.
أما عن الخلافات داخل الغرب، فأوضح سلام أنها لا تزال تعيق توحيد الموقف الدفاعي، سواء حول التمويل المشترك للمشروعات الكبرى، أو بشأن مركزية القرار في بروكسل مقابل الحفاظ على السيادة الوطنية. وأشار إلى أن دعوة رئيسة المفوضية الأوروبية إلى اتباع أساليب «غير تقليدية» لمواجهة «الحرب الهجينة الروسية» تعبر عن تطور في التفكير الإستراتيجي الأوروبي، بعد أن بات يشمل تعزيز القدرات السيبرانية، وتكثيف الضغط الاقتصادي والإعلامي، وبناء شراكات مع القطاع الخاص لحماية البنى التحتية الحيوية.
وفي السياق، قال مدير مركز «جي إس إم» للأبحاث والدراسات في موسكو الدكتور آصف ملحم، إن أوروبا «لن تتجرأ على استهداف روسيا بشكل مباشر» إلا إذا توحدت كليًا مع الولايات المتحدة، وهو أمر لا يبدو ممكنًا في الوقت الراهن.
وأوضح أن واشنطن تدرك خطورة الدخول في مواجهة مباشرة مع موسكو بسبب «الترسانة النووية الروسية» التي تفوق نظيرتها الأمريكية، مؤكدًا أن أي صدام من هذا النوع قد يؤدي إلى «دمار شامل» يشمل القارة الأوروبية والولايات المتحدة نفسها.وأضاف ملحم في حديث لـ«إرم نيوز» أن المناورات الحالية «مجرد استعراض عسكري» يهدف إلى الضغط السياسي والنفسي، مشيرًا إلى أن اختيار مواقعها من بلجيكا إلى بريطانيا يهدف إلى تضييق الخناق على بحر البلطيق الذي يعتبره الناتو «منطقة نفوذ» خاصة به، في محاولة للحد من النشاط الروسي فيه، خصوصًا حركة ناقلات النفط.وفي ما يخص مشروع «جدار المسيرات»، رأى ملحم أنه «مكلف للغاية» وأن بعض الدول الأوروبية اعترضت عليه، لكنه يعكس استمرار الخوف الأوروبي من موسكو ومحاولة إقناع الرأي العام بضرورة «التعبئة الدفاعية».
ولفت إلى أن أوروبا خاضت حروبًا عدة ضد روسيا وخسرتها جميعًا، بدءًا من الحرب العالمية الثانية التي كانت «كارثية على القارة»، وهو ما يجعل الأوروبيين حذرين من أي مواجهة جديدة.
وأضاف ملحم أن المزاج العام في أوروبا ليس معاديًا بالكامل لروسيا، فهناك رفض متزايد للعقوبات ومحاولات للالتفاف عليها عبر استيراد النفط والغاز الروسيين، خصوصًا من دول مثل المجر وسلوفاكيا ومالطا وإسبانيا التي تعاني اقتصاديًا.
وأشار إلى وجود «تيار خفي» داخل أوروبا يستفيد من استمرار التوتر، ويتكون من شركات السلاح ومؤسسات الضغط العسكري التي تدفع نحو التصعيد لبيع مزيد من الأسلحة، وهناك تيار آخر يدعو إلى التهدئة لكنه أقل تأثيرًا.