من إصدارات دار «روايات»
قاسم حدّاد يرسم وجوه أصدقائه بحبر الذاكرة في «جوهرة المراصد»
بخفّة الخبير، وخبرة الفذّ، يجول الشاعر البحريني قاسم حداد رفقة العديد من أصدقائه، يقف معهم عند أدق الحكايات التي توطّنت في الذاكرة وشكّلت منعطفات كبيرة في مسيرته، فصاحب “لستِ جرحاً ولا خنجراً” لا يروي سيرة المكان والزمان، ويقصّ حكاية اللحظات المؤثرة التي جمعته مع نخبة من الأدباء والشعراء والمفكرين العرب، في تطواف شجّي يعرّف القارئ على تفاصيل هائلة بسرد موجز وثّقه في كتاب حمل عنوان “جوهرة المراصد”، أرفقه بعنوان فرعي مغرق في الخصوصية: “دفتر الحضور والغياب”، صدر عن دار روايات من الشارقة، المتخصصة بنشر الأعمال الأدبية العربية والمترجمة، بـ331 صفحة من القطع المتوسط.
يكتب حداد في فصل تحت عنوان “بلند الحيدري، أطفئ قناديلك يا مجنون»:(كلما انتهيت من ضحكة مجلجلة مع أصدقاء تلتقي بهم نادراً، قلت لي: “لماذا لا تأتي إلى لندن، سيكون لدينا المزيد من الوقت هناك، وربما قرأنا بعض الشعر».انظر الآن، كيف أن الوقت لم يعد كافياً لأصدقاء أحلامك. ثمّة شخص يحرس لك الذكريات. ينتظرك هناك، ويتعب قليلاً قبل أن تصل. وعندما يدركك النوم، تغدر بك الأحلام “فأطفئ قناديلك يا مجنون»).
لم يتعمّد الشاعر قاسم حدّاد أن يكون كتابه ذو لغة جافة، لم يكتب عن أصدقائه مثل الذي يؤبّن أو يرثي، بل كان رسّاماً بحبر الخبير، وحكمة الشاعر الذي يخطّ أولى كلماته بصدق وعفوية، فامتاز العمل بلغة شعرية تدلّ على حداد، ومشحونة بالملاحظة الدقيقة لأصغر التفاصيل حتى ولكأن القارئ ينخطف لحظة من الواقع ليجلس بجوار أدونيس ومحمود درويش وسليم بركات ومحمد الماغوط، وغيرهم، ويقاسمهم اليومي والعابر والمتخيل والمرئي. يقول حداد من فصل حديثه عن الشاعر السوداني صلاح أحمد إبراهيم تحت عنوان: “الذهاب إلى الشعر بعنق حرّة»:«الآن..مثل ذلك الراعي الأفريقي الذي استحوذ على مخيلة صلاح منذ سنوات عمره المبكرة، نشرع القيثارة العاجية، ونغنّي تلك الأنشودة التي تمنّى شاعرنا أن يسمعها مجلجلة في “غابة الأبنوس».هل احتفظَ صلاح بعنقه حرّة، إلى الحدّ الذي جعله يموت بعيداً عن وطنه؟
لكن ما هو وطن الشاعر؟
أليس هو وطن الطائر بالذات؟
إنه الحريّة، والحريّة ليست جغرافيا، إنها ضربٌ من طبيعة الحياة. صلاح أهلاً بك هناك، حيث لا يذهب أحد إلا ليزداد حضوراً. بـ57 مدخلاً، أعاد قاسم حداد تأثيث ذاكرته مرّة أخرى برائحة أصدقائه، وتبغهم، وأصابعهم المحبرة، ليقصّ على القارئ سيراً موجزة وبليغة تمتاز بكثافة عالية وسردية دقيقة، تدلّ على حكايات تتوارى خلف الأعمال الإبداعية التي صاغها أدباء كبار عاصرهم الكاتب بشكل شخصي، وآخرون لم يسعفه لا الزمان ولا المكان في أن يقاسمهم التجربة، فكان أن اجتهد بوضع دراسات بحثية شاملة وبخطوط شعرية أبلغت عنهم وعن إبداعاتهم، فحضر المتنبي ومايكوفسكي ويسينين، وكان لشعر بوشكين مكان في هذا العمل الذي يشبه متحف الذاكرة المليء بالجمال والحبّ والغياب. «أذكر عندما سمعت نبأ ذهابك العاصف، خطرت أمامي صورةٌ لا أنساها أبداً، رأيتُ في موتك فراشةً رقيقةً وقعَتْ، بفعل المصادفات الموضوعية، على أسفلت الطريق، أمام جنزير دبابة مندفعة، لفرط عدم التكافؤ بين الفراشة والدبابة، لم يكن خبر موتك قادراً “في ذلك السياق”، على منع الحدث، تماماً مثلما كان الغزو والحصار يغطيان على ذهاب شاعر مثلك، شاعر بنى لنا الأحلام، ثم وقع ضحية لها. يقيناً إنك لم تلجأ إلى “الجفت” بوهم صَدَ الحدث عنّا، لكنك أردتَ “على الأقلّ” منعه عنك.
معك حق يا “خليل».
- من فصل “هات الجفت يا خليل».