منصور بن زايد: المتحف يعكس رؤية الإمارات نحو تعزيز الثقافة والسلام والتعايش
لا إدانات ولا أحكاماً أخلاقية بل سرد لوقائع
"لا يوجد شرّ".. يرفض التفسيرات السهلة، ويأبى التفسيرات الصعبة
ينتمي جديد المُخرج الياباني ريوسوكي هاماغوتشي، "لا يوجد شرّ"، إلى أفلامٍ، إمّا يتفاعل المشاهد معها، فيُحبّها ويتقبّل منطقها الخاص، وتركيبتها الغامضة، وتكوينها البطيء المُتمهل؛ أو، ببساطة، تصدمه لفرط خلوّها من المعنى أو الجديد؛ وأيضاً يجدها مُدّعية ومُتكلّفة ومن دون طائل، فيكرهها فوراً.
تعقيد خاتمة وغموضها وعنفها، تتناقض تماماً والسير المنطقي البسيط والهادئ والواضح والبطيء جداً، أو المُملّ، لأحداثٍ وخيوط وشخصيات وعنوان. حبكته منسوجة من تفاصيل بسيطة، بلا أحداث أو دراما كبرى تقريباً. مثلاً، في افتتاحه، تمرّ 10 دقائق كاملة (أو أكثر بقليل) قبل سماع أول جملة حوارية، فيها، تتأمّل/تستعرض الكاميرا قمم أشجار الصنوبر، وتمايل الأغصان، وتدفّق الجداول، وتساقط أشعة الشمس بين الفروع على الثلج، وارتفاع صخور الجبال البيضاء بعيداً، بينما تقوم بنزهة طويلة عبر الغابة الساحرة. لا تتكشّف الأحداث بسهولة، ليس بسبب البطء الشديد والإيقاع البارد، بل لأنّ البنية، أساساً، هادئة في مظهرها، وتطرح عالماً نقيّاً وبرّاقاً على السطح. لكنّه، مع هذا، أكثر قتامة، وأقلّ تفاؤلاً كلّما ازداد التعمّق فيه. هذا يتعارض وعنوانه، المؤكّد نفياً، أو انعدام وجود الشرّ.
بسهولة واختزال، يُمكن تفسير حبكة "لا يوجد شرّ" مُقارنةً بأفلامٍ مُشابهة، تفضح سُعار الرأسمالية وتناهضه، وتحثّ على ضرورة تصدّي البشر ومواجهتهم هذا الوحش، وتُحذّر من تسليعه، وسلبه الضعفاء والفقراء ما يحتكمون إليه. لذا، يبدو الفيلم واضحاً وبسيطاً جداً، ولا جديد فيه. لكنّه يُخلخل هذا الاعتقاد بقوّة وسهولة، خصوصاً في الدقائق الأخيرة، التي تأخذ منعطفاً مفاجئاً ومذهلاً. فيها، يلفت هاماغوتشي الانتباه، مُذكّراً بمرارة وبراعة ودقة، إلى أنّه لا توجد طبيعة مُهدّئة وساحرة ومُسالمة دائماً، أكانت بشرية أو برية، خصوصاً عند حضور الصراع، والصدام مُزلزل بين التصوّر والواقع. كذلك فيه دعوة صريحة إلى التفكير، بينما يجعل الفعل شريراً.
لكنْ، إلى أي مدى يُمكن أنْ تكون الطبيعة شريرة؟ هل تصرّفاتنا الطبيعية، المبنية والمدفوعة بغريزة البقاء تحديداً، تُعتبر شريرة؟
لا يصدر ريوسوكي هاماغوتشي (1978) إدانات وأحكاماً أخلاقية على شخصياته. فقط، يكشف، بوضوح وبساطة، أنّ أي شخص يُمكنه ارتكاب الشرّ، حتى الأفراد البسطاء المُسالمين، والحيوانات الرقيقة الضعيفة.
تدور معظم أحداث الفيلم ـ الفائز بـ"الجائزة الكبرى للجنة التحكيم ـ الأسد الفضي"، في الدورة الـ80 (30 أغسطس/آب ـ 9 سبتمبر/أيلول 2023) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، وجائزة "أفضل فيلم" في الدورة الـ67 (4 ـ 15 أكتوبر/تشرين الأول 2023) لـ"مهرجان لندن السينمائي" ـ في قرية "ميزوبيكي" ومُجتمعها الريفي، الذي يضمّ 6 آلاف شخص، يعيشون في تكافل وانسجام مع محيطهم الطبيعي الهادئ، وجمال الغابات والمروج، التي تضمّ مساراً للغزلان البرية، التي تُعتبر -نظراً إلى قربها الشديد من طوكيو، ومناظرها الطبيعية المُغايرة لبشاعة ناطحات السحاب والمكاتب الرسمية في العاصمة- وجهة سياحية، جذبت أخيراً اهتمام شركة كبرى في طوكيو، فحصلت على أراضٍ، بهدف تطويرها وتحويلها إلى مكان للتخييم الفاخر. مشروع رأسمالي تافه وفارغ من أي مضمون، خلا الجشع والاستغلال، ويستبعد أي رؤية لحياة البشر، وللأضرار البيئية، ولتدمير الطبيعة والحياة البرية.تاكومي (هيتوشي أوميكا) خير تجسيد لنمط الحياة الريفي الهادئ والمسالم، والمنسجم مع الطبيعة حوله. يكسب رزقه من تقطيع الأخشاب، وجمع المياه الصافية من جدول في عبوات لمطعم المعكرونة، ويعتبر المياه عنصراً أساسياً بدلاً من ماء الصنبور. قصداً وتكراراً، تُراقبه الكاميرا من مسافات قريبة، وهو يُمارس طقوسه شبه اليومية، ومنها نسيان اصطحاب ابنته الصغيرة هانا (ريو نيشيكاوا)، ابنة الأعوام الـ8، من المدرسة. هانا اعتادت العودة إلى المنزل بمفردها، عبر الغابة. خيط فرعي يُلمِّحُ إلى تطوّر لاحق مشؤوم بخصوص هانا، وعلاقتها بالغابة والحياة البرية.
مشاهد تاكومي وهانا المنزلية، وفي الخلفية صورة والدتها، تُشير إلى خسارة/فَقدٍ حديث في الأسرة، لا يكشف عنه المخرج: ألهذا دلالاته؟ لهانا عادة التقاط ريش الطيور، والتعرّف إلى الحيوانات وآثارها، وتعلّم أسماء الأشجار، التي لا يُمكن لمسها، والتي يُمكن تناولها. مُعانقة الطبيعة والحياة البرية حولها من دون أدنى خوف، حتى من الغزلان الشاردة بعيداً من مرمى بنادق هواة الصيد. مع ذلك، فهذه الصورة، المثالية للحياة الريفية، ليست جميلة بشكل مُفرط، كأنّها الجنة، ولا يوظّفها هاماغوتشي في خدمة فكرة أنّ الحياة الريفية التقليدية أفضل، بطريقة أو بأخرى، من الحياة في المدينة. في الواقع، كما يُشير تاكومي، ليس القرويون أكثر تقليدية من القادمين الجدد إلى القرية؛ وذلك عندما يتصدّى للدفاع، مع أهل القرية، لما سيلحق بقريتهم وبيئتهم المُحيطة من أضرار وكوارث.
يحضر مُمثّلان للشركة، تاكاهاشي (ريوغي كوساكا) ومايوزومي (أياكا شيبوتاني)، إلى القرية لشرح خطة التطوير، وإقامة مخيم للسكّان المجتمعين في قاعة المدينة. تُناقش الخطة بأدب وإنصات. يشرحان للسكّان تأثير التطوير بجودة مياه الينابيع المحلية وتلويثها، والقلق من احتمال نشوب حرائق في الغابات، جراء عمليات التخييم وإشعال النيران، والخوف من إقامة سياج بارتفاع 3 أقدام لإبعاد الغزلان.
يتحدّث زعيم القرية عن التوازن البيئي واختلاله والتلوّث والأخطار، ويتّهم الشركة بتسريع عملية التخطيط، للحصول على إعانات حكومية مُنتظرة. في هذا التسلسل الرائع، رغم طوله، يظهر تضامن مجتمع القرية ضد جشع الشركة ومماطلتها. الموظفان المبتسمان بلطف، والمتظاهران بالاستماع إلى شكاوى أهل القرية، يتّضح أنْ لا إجابات لديهما على الأسئلة المطروحة.بعودتهما إلى مقرّ الشركة في طوكيو، يُجبرهما المدير على ضرورة التصرّف وإقناع السكان، فهو غير مُبالٍ تماماً بمخاوف السكان المحليين. هنا، يتحوّل الاتجاه السردي، إذْ يكتشف موظّفا الشركة، الأربعيني تاكاهاشي والشابة مايوزومي، أنّهما غير سعيدين. يشعران بالذنب لما يفعلانه، خصوصاً في ما يتعلق بخطّة أصحاب العمل، الفظّة والخرقاء، لعرض رشوة وظيفية على تاكومي في موقع التخييم المُزمع. يتخيّل تاكاهاشي ترك وظيفته اليومية الروتينية، الخالية من الروح، لعيش حياة هادئة وبسيطة في الغابة.
بينما يأمل كثيرون منا في هذا، ولو لبعض الوقت، فإنّ ريوسوكي هاماغوتشي يُقوِّضُ رؤيتنا الخيالية الحالمة، والمُتوهِّمة، عن الحياة الريفية المثالية، الهادئة والمُسالمة، نازعاً عنها الطابع الرومانسي والناعم، الحاجب حقيقة انطوائها على مخاطر غير متوقّعة، وقسوة مُضمرة لا ترحم.