محمد بن راشد: المشروع يمثل وجهاً حضارياً لدولتنا.. وعنواناً للرحمة والعطاء
الحرب في أوكرانيا:
لدى دول البلطيق أسباب قوية للقلق...!
-- من المرجح أن تبرز بسرعة مسألة التضامن مع هذه الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي
-- تاريخيا، ثقافيا، لغويا، شعوب البلطيق ليست سلافية
-- وجد العديد من قادة البلاشفة صعوبة في هضم استقلالها وفقدان معظم الواجهة الغربية للإمبراطورية القيصرية
زاد الهجوم على أوكرانيا من المخاوف التي أعربت عنها منذ سنوات الدول المجاورة لروسيا. القلق قوي بشكل خاص في إستونيا ولاتفيا وليتوانيا لأسباب تاريخية، ولكن أيضًا بسبب بيانات وإجراءات أحدث. ويضفي الغزو الحالي مصداقية على النداءات المستمرة للقادة، ولا سيما من دول البلطيق.
تاريخيا، ثقافيا، لغويا، شعوب البلطيق ليست سلافية. في كثير من الأحيان، يتم اختزال أوروبا الشرقية والوسطى ودول البلطيق في منطقة “سلافية” زائفة غير واضحة. بالإضافة إلى الجهل، فإن هذا الحكم يعكس ميلاً لجعل المنطقة حكراً على موسكو، وبالتالي الاستهزاء بحق هذه الشعوب في تقرير المصير الذي يكفله ميثاق الأمم المتحدة.
لغويًا، تعتبر الليتوانية واللاتفية من لغات البلطيق، وترتبط ارتباطًا مباشرًا بلغات أسلافنا الهندو-أوروبيين. من جانبها، الإستونية هي لغة فنلندية-أوغرية، وبالتالي فهي قريبة من الفنلندية ومرتبطة بالهنغارية... إنها ليست لغات سلافية.
الحكم القيصري
كانت أراضي البلطيق تحت سيطرة الألمان والدنماركيين والسويديين والبولنديين، أوروبيون غربيون إذن.
ففي القرن الثامن عشر فقط، أصبحت معظم المنطقة، إلى جانب فنلندا، تحت الحكم الإمبراطوري الروسي بعد حروب مروعة استمرت قرونا. على سبيل المثال، حاصر إيفان الرهيب قلعة سيسيسش في لاتفيا عام 1578.
وبدلاً من التعذيب على يد قوات القيصر، فضل اللاجئون تفجير أنفسهم.
مستوحاة من عصر التنوير، أدت الصحوة القومية في القرن التاسع عشر إلى قيام السلطات القيصرية بتكثيف عملية الترويس منذ ستينات القرن التاسع عشر من أجل تقوية الإمبراطورية. ومع ذلك، استغل البلطيون ثورات عام 1917 ليتحرّروا.
وبدعم من الدنمارك وفرنسا والمملكة المتحدة بشكل خاص، قادوا حرب الاستقلال حتى عام 1920 ضد الجيوش الروسية البيضاء والجيش الأحمر وفريكوربس الألمانية “وحدات شبه عسكرية مناهضة للشيوعية”.
عام 1920، نالت دول البلطيق الثلاث استقلالها المعترف به دوليًا في مؤتمر الدول المتحالفة في باريس عام 1921 بفضل دعم الرئيس الفرنسي ألكسندر ميليراند ووزير خارجيته أريستيد بريان.
وجد العديد من قادة البلاشفة صعوبة في هضم هذا الاستقلال وفقدان معظم الواجهة الغربية للإمبراطورية القيصرية.
وسنحت الفرصة مع ميثاق مولوتوف-ريبنتروب لعام 1939، والذي تضمن بروتوكولات سرية تتعلق بضم دول البلطيق.
بعد الغزو النازي لاتحاد الجمهوريـــــات السوفياتية، تغيرت السيطرة على المنطقة عدة مرات قبل أن يتم استيعابها من قبل الاتحاد السوفياتي عام 1945.
ثم ذهب العديد من البلطيين إلى المنفى في كندا وأستراليا والسويد أو الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى الفور، تم تنظيم حرب عصابات، ولن يتم القضاء عليها إلا في 1955-1956.
خلال الحقبة السوفياتية، بالإضافة إلى المضايقات الأخرى “الاعتقالات التعسفية والتعذيب”، تم ترحيل 250 الفا من البلطيين إلى معسكرات الغولاغ، غالبًا في شاحنات الماشية. ساندرا كالنيتي، سفيرة لاتفيا السابقة في فرنسا، تروي في فيلم الكعب العالي في ثلوج سيبيريا قصتها وقصة عائلتها أثناء ترحيلهم إلى سيبيريا.
منذ عام 1986، قاومت شعوب البلطيق الاتحاد السوفياتي بطريقة سلمية: نظموا ثورة الغناء، التي بلغت ذروتها عام 1989 بسلسلة بشرية عملاقة تعبر البلدان الثلاثة، تسمى “طريق البلطيق”، تلاها الاستقلال بعد ذلك بعامين.
وهكذا فتحت معارضة البلطيق الباب للتحرر الوطني بين الجمهوريات السوفياتية، وهو عامل أدى إلى تسريع الانهيار الداخلي للاتحاد السوفياتي، ولا يزال البعض يتذكره في موسكو.
ترويع
بالنسبة لفلاديمير بوتين، إذا كان سقوط الاتحاد السوفياتي يشكل “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”، فهذا ليس بسبب نهاية أيديولوجية تدعي أنها تحررية، ولكن بسبب “انهيار روسيا التاريخية تحت اسم الاتحاد السوفياتي”.
ان المشروع الوطني الذي بدأ في العهد القيصري، هو ما يبدو أن الرئيس الروسي يتحسّر عليه كثيرًا. ويتم تحديد دول البلطيق بانتظام على أنها لعبت دورًا رائدًا في هذا الإذلال.
تستمر الخلافات، وعلى سبيل المثال، لا تعترف موسكو بالاحتلال السوفياتي، ويواصل العديد من المثقفين الروس تصوير منطقة البلطيق على أنها “روسية”.
كما فرضت موسكو عقوبات على دول البلطيق وأوروبا الشرقية في التسعينات “قبل أي انضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو الناتو”، لا سيما في قطاع الطاقة. ويقوم الجيش الروسي بانتظام بمناورات كبيرة على حدود البلطيق، وكثيرا ما ينتهك سلاح الجو الروسي المجال الجوي، مما دفع العديد من الدول، منها السويد، إلى إصدار تنبيهات حول الانزلاقات المحتملة.
ويتم تعهّد التوتر أيضًا من قبل بعض المعلقين البارزين. على سبيل المثال، ألكسندر دوغين، الذي نصّب نفسه “مؤثرًا” لفلاديمير بوتين، مؤيدًا لحرب الحضارات بقيادة إمبراطورية أوراسية جديدة وقريب من أقصى اليمين الأوروبي، معتاد على التصريحات غير المناسبة مثل حقيقة أن دول البلطيق أعداء روسيا، وأنه إذا حدث أي شيء للولايات المتحدة، فلن يتردد الكرملين في غزوها.
وتشمل محاولات الترهيب ما يسمى باستراتيجية “التصعيد بهدف التهدئة”، والتي تتمثل في التشكيك في استخدام الأسلحة النووية في حال تتعرض القوات التقليدية الى صعوبات. ويعبئ بوتين هذا التكتيك عندما يتذرع باحتمال استخدام أسلحة نووية في أوكرانيا، أو يضع القوات النووية في “حالة تأهب خاصة”. وتمثل هذه الاستراتيجية خطرًا وجوديًا على دول البلطيق لأن السلطات الروسية يمكن أن تلوّح بهذا التهديد من أجل منع الناتو من التدخل أثناء الغزو. ويحدث هذا التحريض وهذه التهديدات في سياق ينتحل فيه الكرملين بشكل متزايد لنفسه الحق في التدخل عسكريًا، ومن جانب واحد، في البلدان المجاورة للدفاع عن الأقليات، الناطقة بالروسية أم لا، كما حدث في جورجيا عام 2008، وفي شبه جزيرة القرم وفي دونباس عام 2014 باتهامات كاذبة بارتكاب إبادة جماعية.
ولتبرير هذه العمليات، يتم التذرع بانتظام بسوابق تدخلات الناتو في كوسوفو عام 1998 أو غزو العراق عام 2003 من قبل التحالف بقيادة الولايات المتحدة. وكأن عدم احترام القانون الدولي من قبل البعض يجعل أي انتهاك مستقبلي أكثر قبولا.
تهديدات هجينة
تجري السلطات الروسية عمليات إعلامية تهدف إلى نشر أخبار كاذبة لتشويه سمعة دول معينة أو زعماء إقليميين أو قوات الناتو حيث تستخدم وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الحكومة مثل روسيا اليوم أو سبوتنيك.
والهدف من ذلك هو إثارة الشـــك والارتباك، ولا سيما بشأن نزاهة دول معينة.
هنا مرة أخرى، كان لدى دول البلطيق فكرة مسبقة عن ذلك قبل أي شخص آخر خلال الهجمات الإلكترونية ضد المواقــــع الإسـتونية عام 2007 في قضيــــة تمثــــال الجندي الروسي.
تتضمن مثل هذه الأخبار المزيفة القليل من كل شيء وأي شيء، مثل الترويج المفترض (والعبثي) لسفاح القربى في المدارس النرويجية، كدليل على تدهور المجتمعات الغربية، وظهور كوفيد في لاتفيا، إلخ. وكما في حالة أوكرانيا، تتمثل الآلية في محاولة تقويض شرعية الدول الثلاث، من خلال تقديمها على أنها في انحدار، وتحت امرة “الغرب” أو الناتو أو الولايات المتحدة.
ويتم إنشاء المواقع أيضًا مع إخفاء حقيقة أنها تعمل تحت إشراف الكرملين، على سبيل المثال من خلال روسيا ســيجودنيا، جهاز صحفي رسمي.
ودون أن يصل الوضع إلى اندلاع العنف، كما هو الشأن في أوكرانيا، تبنّت السلطات الروسية منذ فتــــــرة طويلة موقفًا غامضًا، بل وحتى عدائيًا تجــــاه إســـــتونيا ولاتفيا وليتوانيا.
الحيل هي نفسها المستخدمة في أماكن أخرى: التضليل الذي تنظمه وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة الدولة، والتشكيك في شرعية الدول، ومحاولة استغلال السكان الناطقين بالروسية الذين في النهاية لا يعرفهم الكرملين جيدًا (ويعتبرون أنفسهم في أغلبيتهم من أصل إستوني أو لاتفي أو ليتواني)، تلاعب ماكر بالتاريخ والرموز الشيوعية “مثل احتفالات 9 مايو أو النضال ضد الفاشية».
لكل هذا، لدى سكان البلطيق أسباب قوية للقلق بشأن قرارات الكرملين التالية، خاصةً إذا تمكن من الخروج بسرعة من المستنقع الأوكراني. وفي هذه المرحلة، من المرجح أن تبرز مسألة التضامن مع هذه الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
وسيكون من الحكمة الاستعداد لمثل هذا الاحتمال.
ولتفادي تصعيد جديد، يجب أن ترى سياسة الردع الاقتصادي والعسكري الحقيقية النور في بحر البلطيق، بالتشاور مع الديمقراطيات المجاورة مثل فنلندا والسويد، وبدعم من الاتحاد الأوروبي “يجب نشر المزيد من القوات التقليدية في الجهة».
على المدى القصير، سيؤدي ذلك إلى إزالة الخطر المتمثل في إغراء الكرملين لاختبار تضامن الناتو. وعلى المدى الطويل، قد يؤدي ذلك إلى شراكة استراتيجية حقيقية مع روسيا، ولكن ليس على حساب أمن وحرية دول البلطيق.
*أستاذ أخلاقيات العمل والتنمية المستدامة في كلية استوكهولم للاقتصاد في ريغا. يركز عمله على تغير المناخ والدولة الكافلة والسعادة.
-- تاريخيا، ثقافيا، لغويا، شعوب البلطيق ليست سلافية
-- وجد العديد من قادة البلاشفة صعوبة في هضم استقلالها وفقدان معظم الواجهة الغربية للإمبراطورية القيصرية
زاد الهجوم على أوكرانيا من المخاوف التي أعربت عنها منذ سنوات الدول المجاورة لروسيا. القلق قوي بشكل خاص في إستونيا ولاتفيا وليتوانيا لأسباب تاريخية، ولكن أيضًا بسبب بيانات وإجراءات أحدث. ويضفي الغزو الحالي مصداقية على النداءات المستمرة للقادة، ولا سيما من دول البلطيق.
تاريخيا، ثقافيا، لغويا، شعوب البلطيق ليست سلافية. في كثير من الأحيان، يتم اختزال أوروبا الشرقية والوسطى ودول البلطيق في منطقة “سلافية” زائفة غير واضحة. بالإضافة إلى الجهل، فإن هذا الحكم يعكس ميلاً لجعل المنطقة حكراً على موسكو، وبالتالي الاستهزاء بحق هذه الشعوب في تقرير المصير الذي يكفله ميثاق الأمم المتحدة.
لغويًا، تعتبر الليتوانية واللاتفية من لغات البلطيق، وترتبط ارتباطًا مباشرًا بلغات أسلافنا الهندو-أوروبيين. من جانبها، الإستونية هي لغة فنلندية-أوغرية، وبالتالي فهي قريبة من الفنلندية ومرتبطة بالهنغارية... إنها ليست لغات سلافية.
الحكم القيصري
كانت أراضي البلطيق تحت سيطرة الألمان والدنماركيين والسويديين والبولنديين، أوروبيون غربيون إذن.
ففي القرن الثامن عشر فقط، أصبحت معظم المنطقة، إلى جانب فنلندا، تحت الحكم الإمبراطوري الروسي بعد حروب مروعة استمرت قرونا. على سبيل المثال، حاصر إيفان الرهيب قلعة سيسيسش في لاتفيا عام 1578.
وبدلاً من التعذيب على يد قوات القيصر، فضل اللاجئون تفجير أنفسهم.
مستوحاة من عصر التنوير، أدت الصحوة القومية في القرن التاسع عشر إلى قيام السلطات القيصرية بتكثيف عملية الترويس منذ ستينات القرن التاسع عشر من أجل تقوية الإمبراطورية. ومع ذلك، استغل البلطيون ثورات عام 1917 ليتحرّروا.
وبدعم من الدنمارك وفرنسا والمملكة المتحدة بشكل خاص، قادوا حرب الاستقلال حتى عام 1920 ضد الجيوش الروسية البيضاء والجيش الأحمر وفريكوربس الألمانية “وحدات شبه عسكرية مناهضة للشيوعية”.
عام 1920، نالت دول البلطيق الثلاث استقلالها المعترف به دوليًا في مؤتمر الدول المتحالفة في باريس عام 1921 بفضل دعم الرئيس الفرنسي ألكسندر ميليراند ووزير خارجيته أريستيد بريان.
وجد العديد من قادة البلاشفة صعوبة في هضم هذا الاستقلال وفقدان معظم الواجهة الغربية للإمبراطورية القيصرية.
وسنحت الفرصة مع ميثاق مولوتوف-ريبنتروب لعام 1939، والذي تضمن بروتوكولات سرية تتعلق بضم دول البلطيق.
بعد الغزو النازي لاتحاد الجمهوريـــــات السوفياتية، تغيرت السيطرة على المنطقة عدة مرات قبل أن يتم استيعابها من قبل الاتحاد السوفياتي عام 1945.
ثم ذهب العديد من البلطيين إلى المنفى في كندا وأستراليا والسويد أو الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى الفور، تم تنظيم حرب عصابات، ولن يتم القضاء عليها إلا في 1955-1956.
خلال الحقبة السوفياتية، بالإضافة إلى المضايقات الأخرى “الاعتقالات التعسفية والتعذيب”، تم ترحيل 250 الفا من البلطيين إلى معسكرات الغولاغ، غالبًا في شاحنات الماشية. ساندرا كالنيتي، سفيرة لاتفيا السابقة في فرنسا، تروي في فيلم الكعب العالي في ثلوج سيبيريا قصتها وقصة عائلتها أثناء ترحيلهم إلى سيبيريا.
منذ عام 1986، قاومت شعوب البلطيق الاتحاد السوفياتي بطريقة سلمية: نظموا ثورة الغناء، التي بلغت ذروتها عام 1989 بسلسلة بشرية عملاقة تعبر البلدان الثلاثة، تسمى “طريق البلطيق”، تلاها الاستقلال بعد ذلك بعامين.
وهكذا فتحت معارضة البلطيق الباب للتحرر الوطني بين الجمهوريات السوفياتية، وهو عامل أدى إلى تسريع الانهيار الداخلي للاتحاد السوفياتي، ولا يزال البعض يتذكره في موسكو.
ترويع
بالنسبة لفلاديمير بوتين، إذا كان سقوط الاتحاد السوفياتي يشكل “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”، فهذا ليس بسبب نهاية أيديولوجية تدعي أنها تحررية، ولكن بسبب “انهيار روسيا التاريخية تحت اسم الاتحاد السوفياتي”.
ان المشروع الوطني الذي بدأ في العهد القيصري، هو ما يبدو أن الرئيس الروسي يتحسّر عليه كثيرًا. ويتم تحديد دول البلطيق بانتظام على أنها لعبت دورًا رائدًا في هذا الإذلال.
تستمر الخلافات، وعلى سبيل المثال، لا تعترف موسكو بالاحتلال السوفياتي، ويواصل العديد من المثقفين الروس تصوير منطقة البلطيق على أنها “روسية”.
كما فرضت موسكو عقوبات على دول البلطيق وأوروبا الشرقية في التسعينات “قبل أي انضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو الناتو”، لا سيما في قطاع الطاقة. ويقوم الجيش الروسي بانتظام بمناورات كبيرة على حدود البلطيق، وكثيرا ما ينتهك سلاح الجو الروسي المجال الجوي، مما دفع العديد من الدول، منها السويد، إلى إصدار تنبيهات حول الانزلاقات المحتملة.
ويتم تعهّد التوتر أيضًا من قبل بعض المعلقين البارزين. على سبيل المثال، ألكسندر دوغين، الذي نصّب نفسه “مؤثرًا” لفلاديمير بوتين، مؤيدًا لحرب الحضارات بقيادة إمبراطورية أوراسية جديدة وقريب من أقصى اليمين الأوروبي، معتاد على التصريحات غير المناسبة مثل حقيقة أن دول البلطيق أعداء روسيا، وأنه إذا حدث أي شيء للولايات المتحدة، فلن يتردد الكرملين في غزوها.
وتشمل محاولات الترهيب ما يسمى باستراتيجية “التصعيد بهدف التهدئة”، والتي تتمثل في التشكيك في استخدام الأسلحة النووية في حال تتعرض القوات التقليدية الى صعوبات. ويعبئ بوتين هذا التكتيك عندما يتذرع باحتمال استخدام أسلحة نووية في أوكرانيا، أو يضع القوات النووية في “حالة تأهب خاصة”. وتمثل هذه الاستراتيجية خطرًا وجوديًا على دول البلطيق لأن السلطات الروسية يمكن أن تلوّح بهذا التهديد من أجل منع الناتو من التدخل أثناء الغزو. ويحدث هذا التحريض وهذه التهديدات في سياق ينتحل فيه الكرملين بشكل متزايد لنفسه الحق في التدخل عسكريًا، ومن جانب واحد، في البلدان المجاورة للدفاع عن الأقليات، الناطقة بالروسية أم لا، كما حدث في جورجيا عام 2008، وفي شبه جزيرة القرم وفي دونباس عام 2014 باتهامات كاذبة بارتكاب إبادة جماعية.
ولتبرير هذه العمليات، يتم التذرع بانتظام بسوابق تدخلات الناتو في كوسوفو عام 1998 أو غزو العراق عام 2003 من قبل التحالف بقيادة الولايات المتحدة. وكأن عدم احترام القانون الدولي من قبل البعض يجعل أي انتهاك مستقبلي أكثر قبولا.
تهديدات هجينة
تجري السلطات الروسية عمليات إعلامية تهدف إلى نشر أخبار كاذبة لتشويه سمعة دول معينة أو زعماء إقليميين أو قوات الناتو حيث تستخدم وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الحكومة مثل روسيا اليوم أو سبوتنيك.
والهدف من ذلك هو إثارة الشـــك والارتباك، ولا سيما بشأن نزاهة دول معينة.
هنا مرة أخرى، كان لدى دول البلطيق فكرة مسبقة عن ذلك قبل أي شخص آخر خلال الهجمات الإلكترونية ضد المواقــــع الإسـتونية عام 2007 في قضيــــة تمثــــال الجندي الروسي.
تتضمن مثل هذه الأخبار المزيفة القليل من كل شيء وأي شيء، مثل الترويج المفترض (والعبثي) لسفاح القربى في المدارس النرويجية، كدليل على تدهور المجتمعات الغربية، وظهور كوفيد في لاتفيا، إلخ. وكما في حالة أوكرانيا، تتمثل الآلية في محاولة تقويض شرعية الدول الثلاث، من خلال تقديمها على أنها في انحدار، وتحت امرة “الغرب” أو الناتو أو الولايات المتحدة.
ويتم إنشاء المواقع أيضًا مع إخفاء حقيقة أنها تعمل تحت إشراف الكرملين، على سبيل المثال من خلال روسيا ســيجودنيا، جهاز صحفي رسمي.
ودون أن يصل الوضع إلى اندلاع العنف، كما هو الشأن في أوكرانيا، تبنّت السلطات الروسية منذ فتــــــرة طويلة موقفًا غامضًا، بل وحتى عدائيًا تجــــاه إســـــتونيا ولاتفيا وليتوانيا.
الحيل هي نفسها المستخدمة في أماكن أخرى: التضليل الذي تنظمه وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة الدولة، والتشكيك في شرعية الدول، ومحاولة استغلال السكان الناطقين بالروسية الذين في النهاية لا يعرفهم الكرملين جيدًا (ويعتبرون أنفسهم في أغلبيتهم من أصل إستوني أو لاتفي أو ليتواني)، تلاعب ماكر بالتاريخ والرموز الشيوعية “مثل احتفالات 9 مايو أو النضال ضد الفاشية».
لكل هذا، لدى سكان البلطيق أسباب قوية للقلق بشأن قرارات الكرملين التالية، خاصةً إذا تمكن من الخروج بسرعة من المستنقع الأوكراني. وفي هذه المرحلة، من المرجح أن تبرز مسألة التضامن مع هذه الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
وسيكون من الحكمة الاستعداد لمثل هذا الاحتمال.
ولتفادي تصعيد جديد، يجب أن ترى سياسة الردع الاقتصادي والعسكري الحقيقية النور في بحر البلطيق، بالتشاور مع الديمقراطيات المجاورة مثل فنلندا والسويد، وبدعم من الاتحاد الأوروبي “يجب نشر المزيد من القوات التقليدية في الجهة».
على المدى القصير، سيؤدي ذلك إلى إزالة الخطر المتمثل في إغراء الكرملين لاختبار تضامن الناتو. وعلى المدى الطويل، قد يؤدي ذلك إلى شراكة استراتيجية حقيقية مع روسيا، ولكن ليس على حساب أمن وحرية دول البلطيق.
*أستاذ أخلاقيات العمل والتنمية المستدامة في كلية استوكهولم للاقتصاد في ريغا. يركز عمله على تغير المناخ والدولة الكافلة والسعادة.