حرب الأعصاب في الشمال الشرقي
لماذا تصر موسكو على استنزاف «خاركيف»؟
وضعت الحرب الروسية الأوكرانية، مقاطعة خاركيف في قلب الصراع المحتدم بين الطرفين منذ 3 سنوات ونصف السنة، حيث كانت المقاطعة هدفًا إستراتيجيًّا لنيران المقاتلات والدبابات الروسية؛ ما وصفه الخبراء بـ”حرب الاستنزاف الدامية” ضدّ العاصمة الصناعية الأوكرانية.
ولم تغب خاركيف يومًا عن خريطة النزاع الروسي الأوكراني، حيث كانت محطة رئيسية لكافة مراحل تطوّر الحرب، وخيطًا ناظمًا لمختلف فترات الصراع المحتدم.
ففي الأيام الأولى للحرب كانت المقاطعة هدفًا رئيسيًّا لتوغل القوات البرية الروسية، قبل أن تجد الأخيرة مقاومة شرسة من القوات الأوكرانية والأهالي؛ ما فرض عليها الانسحاب الكامل في سبتمبر 2022.
وفي الـ10 من مايو 2024، شنت القوات الروسية هجومًا عنيفًا عُرف إعلاميًّا بهجوم “خاركيف”، سعت من خلاله إلى اختراق الدفاعات الأوكرانية والوصول إلى مدينتي “فوفتشانشك” “وخاركيف” (مركز الإقليم)، غير أنّه باء بالفشل النسبي مع شنّ القوات الأوكرانية لهجوم معاكس مكنها من استعادة بعض المدن ومن تحسين تمركزها العسكري.
وخلال الأسابيع القليلة الماضية، كانت المقاطعة ولا تزال - حتى فترة كتابة التقرير - ، عنوان استهداف واستنزاف روسيين واضحين لها، شملا البنية التحتية، والموارد الطاقية، عبر المسيرات المقاتلة والصواريخ الدقيقة وغير الدقيقة، كما تمكن الجيش الروسي من تحقيق تقدم ميداني ملموس في المدن الواقعة في المقاطعة والمتاخمة لمركز المقاطعة “خاركيف».
وبداية الشهر الجاري، أوردت مصادر إعلانية أنّ روسيا أطلقت 381 طائرة مسيرة و35 صاروخا مستهدفةً بنى تحتية للطاقة في منطقة خاركيف وبولتافا (وسط أوكرانيا).
أسباب النيران الروسية
حيال مشهد الاستهداف المباشر الذي أودى بحياة الآلاف من أبناء “خاركيف”، وحوّل المقاطعة إلى شبه مقاطعة “أشباح” بعد نزوح ثلاثة أرباع الساكنين، يطرح الخبراء أسئلة إستراتيجية عن الأسباب التي تجعل النصيب الأكبر من النيران الروسية تقع على جام المقاطعة؟
في هذا المفصل، يتوافق الخبراء والمتابعون للشأن الروسي أنّ الاسباب مركبة ومعقدة ولا يمكن اختزالها في بعد تفسيري واحد.
فعسكريًّا، يؤكد الخبراء العسكريون أنّ المقاطعة تدفع فاتورة “لعنة الجغرافيا” بسبب وقوعها قربُ الحدود البرية إلى روسيا، مشيرين إلى أنّ إستراتيجيا الجيش الروسي تقوم على “استنزاف” المدن الكبرى الحدودية، لعدة اعتبارات على رأسها مكانة هذه المدن في المنظومة الاقتصادية والصناعية الأوكرانية، وثانيا نجاعة الضربات العسكرية الروسية لهذه الأماكن.
حيث إنّ مقاطعة خاركيف تُقصف من قواعد عسكرية في مدينة “بيلغورود” الروسية، وهي مدينة تبعد عن خاركيف (40 كيلومتر فقط)، بصواريخ إس 300 والتي تصل أهدافها في 40 ثانية فقط.
أمّا اقتصاديًّا وبشريًّا، فالمدينة تعتبر ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا بعد كييف، من حيث عدد السكان، وتقع عند التقاء 3 أنهار، وتسمى في الأدبيات الأوكرانية بـ”مدينة اللهب” نظرًا للصناعات التعدينية والعسكرية التي تزخر بها.
وتشير المصادر الأوكرانية الرسمية إلى أنّ المدينة – أي مركز المقاطعة- تضم 300 مشروع صناعيّ وتعتبر معقلًا من معاقل الصناعات العسكرية.
وتكشف أن المدينة تعدّ معقلًا لصناعة الدبابات والعربات المدرعة وشركات الصناعات المرتبطة بالفضاء والطاقة النووية والطائرات العملاقة والمقاتلات المسيرة.
كما تصنع قاطرات الديزل وآلات التعدين والجرارات والآلات الزراعية والدراجات والمولدات والتوربينات البخارية والعديد من المعدات الكهربائية الأخرى.
إقليم لقضم الدب الروسي
أمّا فيما يخص الجوانب الإستراتيجية الروسية، فإنّ الإقليم يقع في صلب إستراتيجية “قضم الدبّ الروسي” للأراضي الأوكرانية من خلال الضمّ على أساس العرق واللغة واللسان.
ويشير بعض الخبراء المتخصصين في العلاقات الدولية، إلى أنّ إقليم “خاركيف” كان ولا يزال على أجندات الضم الروسية عقب جزيرة القرم ودونباس ودونيتسك وزابوروجيا وخيرسون.
حيث تعتبر التقديرات الروسية أنّ الهوية الروسية “الأصيلة” لسكان خاركيف لا تزال متأصلة، وتعبر عن نفسها من خلال استعمالهم للغة الروسية في كافة مدن الإقليم فيما يتحدث أهالي القرى لغة أوكرانية ممزوجة بالكثير من الكلمات الروسية.
وتبني الرؤية الروسية مطالب ضمّ خاركيف على إحصائياتها التي تشير إلى أنّ أكثر من 30 في المِئة من أهالي الإقليم من أصل روسي، وأن نصفهم يتحدثون اللّغة الروسية فقط، وأنّ الباقي أوكرانيون ولكنهم لا يرفضون الانضمام إلى روسيا بسبب التقارب الجغرافي والثقافي واللغوي.
كما تؤصل نظرتها على الدعم الانتخابي الكاسح الذي كان يبديه أهالي الإقليم للمترشحين المؤيدين لها، في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، إذ كثيرًا ما يُنظر للإقليم عامة وللمدينة خاصة كخزان انتخابي مهمّ وصريح لفائدة حلفاء موسكو في أوكرانيا.
حرب انتقام
ميدانيًّا، لا تستبعد التقديرات العسكرية الروسية والغربية إرجاع “حرب الاستنزاف التي تشنها موسكو على خاركيف” للمقاومة العسكرية التي أبدتها المدينة خلال عام 2022، وهي مقاومة أسقطت الكثير من الحسابات الروسية في الماء.
وتُشير المصادر والجهات العسكرية إلى أنّ الجيش الروسي بنى تقديراته الخاطئة على سقوط سريع للمدينة والإقليم، يتلوه انهيارات متتالية للمدن الأوكرانية مثل حجارة الدومينو.
وتكشف الجهات الروسية القريبة من الكرملين، أنّ القيادة العسكرية والسياسية في موسكو تفاجأت بمقاومة “خاركيف”، بل إنّ كييف ذاتها تفاجأت من حجم المناكفة التي أبدتها المدينة ضدّ القوات الروسية.
وتميط اللثام عن خيبة أمل روسية رسمية جراء الانكسار السياسي والعسكري الكبير الذي لحق بالجيش الروسي الذي أجبر على الانسحاب المذل في سبتمبر2022 بعد وقوع خسائر هائلة في “العتاد والعباد».
وتتقاطع هذه المعطيات مع تقديرات عسكرية تشير إلى أنّ معركة خاركيف، مثلت المنعرج الحقيقي في الحرب الروسية الأوكرانية، وأنّ ميزان القوة اعتدل نسبيًّا بين الطرفين، بعد معركة خاركيف في 2022.
وحسب خبراء قريبين من دوائر اتخاذ القرار في بروكسيل، فإنّ قرار الانخراط الغربي الكامل والشامل في الحرب ضدّ روسيا، تمّ اتخاذه على بضع مراحل، ووفق المشهد الميداني العسكري، وحين اتّضح المأزق الروسي في خاركيف والعجز التام عن الحسم، بدأت نبرة بروكسل ومعها واشنطن تحتدّ وتتصاعد في شكل مصفوفة من العقوبات الاقتصادية ضدّ روسيا والدعم العسكري غير المحدود لأوكرانيا.
ووفق المراقبين أنفسهم، فإنّ روسيا تخوض في خاركيف حربًا بثلاثة عناوين، الأول معاقبتها على المقاومة وإجبارها على دفع الثمن الباهظ، والثاني الاستمرار في محاولات التطويع العسكري نظرًا لأهميتها الإستراتيجية في المشهد العسكري، والثالث أهميتها الجغرافية من حيث إنّها ستسمح لروسيا بتطويق منطقة مهمة في شرق وجنوب أوكرانيا.
خاركيف عنوان حرب المعادن
في هذا المفصل يؤكد الخبراء أنّ المقارنة بين خريطة الحرب الروسية وبين خريطة المعادن في أوكرانيا، تمكن من إدراك شبه تطابق بين مواقع السيطرة ومحاور الزحف المستقبلي مع مكامن “الليثيوم” وباقي المعادن، وكذلك مع خطوط الشحن والإمداد.
ويضيفون أنّ بسيطرة روسيا على كامل إقليم الدونباس ومقاطعات خاركيف وزابوريجيا وخيرسون، ومع تمددها باتجاه مقاطعة دنيبروبيتروفسك، تكون موسكو وضعت يدها على حصة لا يستهان بها إستراتيجيًّا من مكامن الليثيوم والمنغنيز.
والحقيقة أنّ بسط روسيا السيطرة على مكامن الليثيوم من شأنه تحقيق ثلاث نقاط إستراتيجية في غاية الأهمية.
الأولى وتكمن في إجهاض الاتفاق الأمريكي الأوكراني حول المعادن التي بات معظمها تحت سيطرتها، وبالتالي تقويض أسس تقديم واشنطن صواريخ “التوماهوك” لكييف.
الثانية وتتمثل في اللحاق بالتنين الصيني في مجال المعادن الثمينة والنادرة، وخاصة في مجال الليثيوم، وفرض تقاسم نفوذ عالمي، في ظلّ الأهمية الكبرى لهذا المعدن في صناعة السيارات الكهربائية والحواسيب المحمولة والهواتف الذكية.
والثالث ربح ورقة سياسية وعسكرية مهمة جدًّا في ملف إنهاء الحرب وتمكنها من فرض شروطها في أيّ تسوية قادمة.
هكذا يفكر الدب الروسي، وهكذا يخطط، ويبدو أنّ المدينة التي كانت سببًا في تغيير مسار الحرب العالمية الثانية،
عقب سيطرة القوات النازية عليها في 1941، ستكون سببًا في تغيير التوازنات الإقليمية والدولية، فإمّا تفجّر لمقوّمات وإمكانيات الدب الروسي خارج الحدود، وإمّا انكفاء حرج يتحسس خطره ساكن الكرملين وحلفاؤه أيضًا.