ما وراء التحذير الروسي.. هل بلغ التوتر بين موسكو وبرلين مستوى خطيراً؟
لم يعد التحذير الروسي من السفر إلى ألمانيا إجرائيًا عابرًا في سياق التوترات السياسية المتراكمة، بل تحول إلى مؤشر كاشف عن انتقال الخلاف بين موسكو وبرلين من مستوى السجال الدبلوماسي إلى مساحات تمس الأفراد مباشرة.
وقبل أيام، أعلنت وزارة الخارجية الروسية، رسميًا، تحذير مواطنيها من السفر إلى ألمانيا إلا في الحالات الضرورية فقط، وكشفت المتحدثة باسم الوزارة ماريا زاخاروفا أن هذا التحذير جاء على خلفية ما وصفته بانتهاكات يتعرض لها الروس من قبل السلطات الألمانية.
ولم يأتِ التحذير الروسي من فراغ، بل تزامن مع تصعيد ألماني واضح في الخطاب والإجراءات، فقد سبقه بأيام استدعاء برلين السفير الروسي لديها، على خلفية اتهامات لموسكو بتكثيف ما تسمّيه «الأنشطة الهجينة».
وفقاً للمراقبين، هذا التصعيد المتبادل يعكس انتقال المواجهة الروسية الأوروبية إلى مرحلة أكثر تعقيدًا، حيث لم تعد الحرب في أوكرانيا هي الساحة الوحيدة للصراع، بل باتت أوروبا نفسها جزءًا من ميدان المواجهة، عبر الفضاء السيبراني، والإعلامي، والقانوني.
واليوم تجد ألمانيا بوصفها أحد أكبر الداعمين لأوكرانيا عسكريًا وماليًا، نفسها في قلب هذا الاشتباك، وترى موسكو أن برلين لم تعد تتصرف كطرف أوروبي تقليدي، بل كفاعل رئيس في سياسة الاحتواء والضغط.
وفي هذا السياق، تبرز المخاوف الروسية من أن يتحول المواطنون الروس في ألمانيا إلى أهداف جانبية للصراع السياسي، خاصة أن الاتهامات بانتهاك العقوبات أو الاشتباه في أنشطة إعلامية أو معلوماتية، قد تفتح الباب أمام احتجاز أو ملاحقة قانونية، خاصة على الصحفيين.
في البداية، قال ألكسندر زاسبكين، دبلوماسي روسي سابق، إن نصيحة وزارة الخارجية الروسية لمواطنيها بعدم السفر إلى ألمانيا إلا في الحالات الضرورية تُعد إجراءً طبيعيًا ومنطقيًا في ظل التطورات الراهنة.
وكشف زاسبكبن لـ»إرم نيوز» أن السلطات الألمانية في إطار نظام العقوبات القائم باتت تفرض قيوداً مباشرة على المواطنين الروس، خاصة أثناء عبور الحدود، هو ما يعرّضهم لإجراءات مشددة قد تتسم، أحيانًا، بطابع تعسفي.
ولفت إلى أن هذه الممارسات تعكس تصعيدًا سياسيًا وأمنيًا لافتًا، لم يعد محصورًا في مستوى العلاقات الرسمية، بل امتد ليطال الأفراد بصورة مباشرة. وأضاف أن موسكو ترى في هذه الإجراءات مساساً بحقوق مواطنيها، الأمر الذي يفرض عليها اتخاذ تدابير وقائية، في مقدمتها التحذير من السفر تفاديًا لأي مضايقات أو تبعات قانونية غير مبررة.
وأشار الدبلوماسي الروسي السابق، إلى أن القرار الروسي لايأتي في سياق التصعيد، بل يعكس قراءة واقعية لطبيعة المرحلة الحالية من العلاقات الروسية الأوروبية، التي تشهد تراجعاً كبيراً في الثقة على خلفية الحرب في أوكرانيا، محذرًا من أن استمرار تسييس الإجراءات الحدودية سيقود إلى قيود متبادلة أكبر.
في ذات السياق، أكد محمود الأفندي، المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، أن هذا التصعيد يثير مخاوف حقيقية لدى الجانب الروسي بشأن سلامة مواطنيه، في ظل احتمالات توجيه اتهامات لهم تتعلق بالتجسس أو مخالفة قوانين النشر أو اتهامهم بالترويج للدعاية الروسية.
واعتبر الأفندي لـ»إرم نيوز» أن هذه الإجراءات قد تُستخدم كأداة ضغط أو انتقام سياسي غير معلن ضد المواطنين الروس داخل ألمانيا.
احتمالات الاعتقال والتشهير
وأضاف أن هذا المناخ المتوتر قد يدفع برلين إلى تحميل الأفراد تبعات سياسية وإعلامية لا علاقة لهم بها، في سياق محاولات التغطية على إخفاقات الغرب في إدارة الصراع مع روسيا.
وأكد المحلل السياسي أن احتمالات الاعتقال أو التشهير الإعلامي باتت قائمة، وهو ما يجعل القرار الروسي إجراءً وقائيًا لتجنّب مخاطر متوقعة، مشددًا على أنه لا يرى مبررًا أكثر إقناعًا لهذا التحذير.
من ناحية أخرى، أوضح إبراهيم كابان، الخبير في الشؤون الأوروبية، أن العلاقات الروسية الألمانية تمر بإحدى أكثر مراحلها تعقيدًا، مشيرًا إلى أن التوتر تجاوز الإطار السياسي ليشمل المستويات الأمنية، والاقتصادية، والإستراتيجية.
وأكد كابان لـ»إرم نيوز»، أن الإجراءات الأوروبية الأخيرة، خاصة ما يتعلق بالاحتياطي الروسي داخل أوروبا، أسهمت في تدهور العلاقات إلى درجة باتت معها شبه مجمدة.
وأستطرد قائلاً: المشهد الحالي يتسم بما يشبه صراعًا غير معلن، في ظل اعتقاد ألماني بوجود أنشطة ذات طابع استخباراتي روسي، وهو ما يدفع الأجهزة الأمنية إلى التعامل بحزم شديد مع أي مواطن روسي يدخل الأراضي الألمانية.
وأضاف أن موسكو تدرك حساسية هذا الواقع، وتخشى من تبعات أمنية وقانونية قد تطال مواطنيها في ظل هذا التصعيد.
وأشار الخبير في الشؤون الأوروبية إلى أن ألمانيا تتعامل بجدية عالية مع ما تعتبره مواجهة مفتوحة مع روسيا، مدعومة بشراكات عسكرية أوروبية متقدمة، معتبرًا أن هذا التصعيد بلغ ذروته، خاصة مع إدراك موسكو للدور الاقتصادي المحوري الذي تلعبه ألمانيا داخل الاتحاد الأوروبي.