مالي.. حصار تمبكتو يحوّل «المدينة الأسطورية» إلى سجن مفتوح

مالي.. حصار تمبكتو يحوّل «المدينة الأسطورية» إلى سجن مفتوح

في أعماق الصحراء الشمالية لمالي، تغرق مدينة تمبكتو الملقبة تاريخيا بـ”المدينة الأسطورية” في دوامة من الحصار الخانق والاشتباكات الدامية والنقص الحاد في السلع الأساسية، لتتحول إلى قنبلة موقوتة تهدد ملايين السكان في جمهورية مالي، غرب إفريقيا.
تقارير ميدانية حديثة تكشف كيف باتت هذه “الجوهرة التاريخية” على شفا كارثة إنسانية غير مسبوقة منذرة بانهيار كامل لباقي أركان الدولة في أي لحظة. 
فرضت ما تسمى جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” المنضوية تحت جناح تنظيم “القاعدة” الإرهابي حصارا خانقا على مدينة تمبكتو منذ أشهر؛ ما أدى إلى تفاقم الوضع الإنساني وإعادة ترتيب التحالفات المحلية، ومن ثم تعزيز نفوذ الجماعة المسلحة.
وتُوصف تمبكتو بـ”المدينة الأسطورية” لأسباب تاريخية وثقافية وجغرافية تجعلها رمزا عالميا للغموض والعظمة، بدءا من كونها مركز الحضارة الإسلامية في غرب أفريقيا من منتصف القرن الـ13 إلى أواخر القرن الـ16، وصولاً إلى تخيل الأوروبيين لها كـ”مدينة الذهب” خلال العصور الوسطى المتأخرة وعصر النهضة. 

«مدينة الأمان” تغرق في الدماء
تحوّلت المدينة التي وصفها ابن بطوطة عام 1353 بأنها “تجارية عظيمة، آمنة، ذات أسواق مزدهرة”، إلى أطلال يعمها الظلام الدامس، بعد أن اجتاحتها المجاعة والنهب والجوع، وغرقت شوارعها في الدماء.ومع تعدد الروايات ومسببات الوضع المتأزم في شمالي مالي، يُرجع بعض الباحثين إلى أن شرارة التصعيد بدأت مع فرض الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” عقوبات قاسية على مالي، عقب الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكومة المدنية. 
وهذه العقوبات، التي شملت إغلاق الحدود وتجميد الأصول المالية، حوّلت البلاد إلى جزيرة معزولة، تقطعت فيها سبل الإمدادات. 
ففي شمالي البلاد، يسيطر الطوارق والجماعات المسلحة على مساحات شاسعة؛ ما يعيق تدفق المساعدات ويفاقم الوضع.

عنف لا يهدأ
في الأسابيع الأخيرة، شهدت مناطق مثل غاو وتمبكتو اشتباكات عنيفة بين القوات الحكومية المدعومة من روسيا والميليشيات المسلحة؛ ما أدى إلى عشرات القتلى الذين سقطوا، وآلاف المدنيين الذين فروا من منازلهم، تاركين خلفهم قرى محترقة. 
ويروي أحد النازحين في مخيم مؤقت قرب باماكو في شهادات لموقع “أفريكا راديو” قائلاً إن “الرصاص يدوي ليلاً ونهاراً، والأطفال يبكون جوعاً». 

أسواق فارغة وأسعار نارية
وأصبح الوقود في تمبكتو نادرا؛ ما أدى إلى شلل في النقل وتوقف المستشفيات عن العمل، في وقت تحذر فيه منظمات الإغاثة من مجاعة وشيكة، حيث يعاني أكثر من 7 ملايين شخص من انعدام الأمن والغذاء، مشيرة إلى أن الدواء مفقود، والأمراض تنتشر كالنار في الهشيم، خاصة بين الأطفال والمسنين.

ارتفاع الأسعار بنسبة 300%
ووفق مصادر محلية، أصبح الوصول إلى الغذاء والدواء والوقود شبه مستحيل في شمال مالي، فمنذ أغسطس 2023، تفرض جماعة نصرة الإسلام والمسلمين حصارا خانقا على المدينة؛ ما منع أي حركة تجارية أو إنسانية. 
ووفقا لذات المصادر، ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية بنسبة تصل إلى 300%، وأصبحت المستشفيات تعاني من نقص حاد في الأدوية.

العيش في “سجن مفتوح»
من جهته، يقول أحد سكان تمبكتو، الذي طلب عدم الكشف عن هويته خوفا من الانتقام في تصريحات ينقلها تقرير آخر لمجلة “جون أفريك”: “نحن نعيش في سجن مفتوح”، مضيفا أن “المسلحين يسيطرون على الطرق الرئيسة، ويمنعون أي قافلة من الدخول أو الخروج. حتى الأمم المتحدة تواجه صعوبات في إيصال المساعدات». 

استراتيجية الخنق
هذا الحصار ليس عشوائيا، فهو وفق خبراء جزء من استراتيجية مدروسة تهدف إلى إضعاف الدولة، وإجبار السكان على الخضوع لسلطة الجماعات المسلحة.
وأشاروا إلى أنه من خلال قطع خطوط الإمداد، تسعى جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” إلى إنشاء مناطق نفوذ دائمة في المنطقة. 
وفي السنوات الأخيرة، استفادت الجماعة من الفراغ الأمني الناجم عن انسحاب القوات الفرنسية “عملية برخان” في 2022، ثم انسحاب بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في مالي “مينوسما”ً في ديسمبر- كانون الأول 2023. كما ساهم التقارب بين باماكو وموسكو، ووصول مرتزقة “فاغنر” الآن مجموعة “أفريقيا كوربس”، في تعقيد المشهد.
وبحسب باحث متخصص بالشؤون الأمنية في الساحل فإن جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” تستغل ضعف الجيش المالي؛ إذ قال: “بدلاً من المواجهات المباشرة، تفضّل الجماعة الحرب غير المتكافئة: الكمائن، العبوات الناسفة، والحصار».
إعادة ترتيب التحالفات المحلية
الحصار على تمبكتو له عواقب بعيدة المدى، فهو وفق خبراء، يدفع بعض الفصائل المسلحة المحلية، التي كانت حليفة للدولة، إلى إعادة النظر في مواقفها. 
فعلى سبيل المثال، حركة تحرير أزواد (MLA)، التي وقّعت اتفاق سلام مع باماكو في 2015، بدأت في الاقتراب من الجماعة المتطرفة لضمان بقائها، وفق قراءة بعض الخبراء. 
ويضيف أحد الوسطاء المحليين قائلا: “في غياب حل سياسي، يصبح التحالف مع الأقوى خيارا منطقيا”، وفق ما نقلت عنه مجلة “جون أفريك». 
كما أن الحصار يعزز الشعور بتخلي الدولة عن المواطنين، ففي تمبكتو، يتهم العديد من السكان الحكومة المركزية في باماكو بتركهم يواجهون مصيرهم. وهنا يقول تاجر محلي “الجيش موجود، لكنه غير قادر على كسر الحصار”، مضيفا “نحن ندفع ثمن الصراعات السياسية في العاصمة». 

تأثير الدومينو
الحصار على تمبكتو ليس حالة معزولة. فهو يشكل جزءا من تأثير دومينو يهدد استقرار المنطقة بأكملها. في غاو، عاصمة الشمال، بدأت جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” في فرض قيود مماثلة على حركة البضائع. وفي ميناكا، أصبحت الطرق غير آمنة بسبب الكمائن المتكررة.
وفقا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في أكتوبر- تشرين الأول 2024، أدى تدهور الوضع الأمني إلى نزوح أكثر من 500 ألف شخص في شمال مالي منذ بداية العام. كما ارتفع عدد الضحايا المدنيين بنسبة 40% مقارنة بالعام الماضي.
وفي باماكو، تدرك السلطات العسكرية خطورة الوضع، حيث أطلق الجيش في سبتمبر- أيلول 2024، عملية عسكرية واسعة النطاق في منطقة تمبكتو، بدعم من مجموعة “أفريقيا كوربس”، إلا أن النتائج كانت محدودة بعد أن تمت استعادة بعض القرى، لكن الحصار على المدينة لا يزال قائمًا.
ويعترف ضابط مالي كبير، قائلا، “نحن بحاجة إلى استراتيجية شاملة، فالعمليات العسكرية وحدها لا تكفي”، مطالبا بمعالجة الأسباب الجذرية: “الفقر، غياب الدولة، والتوترات العرقية”، وفق تصريحه للمجلة.
وفي تمبكتو، يتساءل السكان عن المستقبل: “إذا استمر الحصار، سنضطر إلى المغادرة”، ويقول أحد المعلمين. “لكن إلى أين؟ المنطقة بأكملها في حالة حرب».
وفي ظل غياب حل سياسي، تواصل جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” تعزيز نفوذها، في وقت يؤكد فيه الخبراء أن الحصار على تمبكتو ليس مجرد عملية عسكرية، بل أداة للسيطرة الاجتماعية والسياسية. 
وأشاروا إلى أن تأثير الدومينو الذي يولّده يهدد بإعادة رسم خريطة السلطة في الساحل بأكمله. 
ووسط هذا الجحيم، يتمسك الشعب المالي بأمل ضعيف في حل سياسي، إلا أنه مع استمرار الحصار وتفاقم العنف، يبدو الانهيار الكامل وشيكا.