نص مُتقن الحياكة يغلب عليه الغموض والتوجس

مسلسل Beef يُقدم سرداً سينمائياً ذكياً لبنية نسيج مجتمعي

مسلسل Beef يُقدم سرداً سينمائياً ذكياً لبنية نسيج مجتمعي

أنتجت شركة الإنتاج A24، بالتعاون مع "نتفليكس"، مُسلسلاً فَريداً من نوعه، لا يُشبه باقي إنتاجات المنصات التجارية. المُسلسل الجديد يحمل عنوان "غضب على الطريق" Beef، مؤلف من عشر حلقات، بمعدّل نصف ساعة للحلقة. عناوين الحلقات هي اقتباسات من مقولات لكافكا كـ"أنا قفص"، ولسيمون دو بوفوار كـ"دراما الخيار الأصلي"، ولجوزيف كامبل وسيلفيا بلاث وغيرهم. تتموضع الاقتباسات بصرياً على لوحات تشكيلية من تصميم ديفيد تشوي الذي لعب دور آيزاك في المسلسل.
 
مُعظم الاقتباسات واللوحات لم تدفع الحبكة أو القصة إلى الأمام، بقدر ما ساهمت في إضفاء جو من الغموض والتوجس. يتأرجح المزاج العام للعمل بين القلق والإحباط والغضب، ويخلط بشكلٍ متوازن بين جنرات عدة كالدراما والكوميديا السوداء والغموض والإثارة والجريمة. تمييز الجنرات عند تحليل العمل ضروري، لكن خلطها ضمن العرض ليس بالأمر الجلل، فالأعمال التي يمكن أن نصفها بكلمة واحدة أو عبارة مفردة نادرة جداً.
 
ضمن نصٍ مُتقن الحياكة، تأتي أهمية شركة الإنتاج A24 والمصور لاركن سيبل ، بعد تعاونهما الأخير الذي توّج بجائزة أوسكار Everything Everywhere All at Once. فالكثير من المقاطع تُعتَبر تجريبية وشُجاعة منهما وممتعة أيضاً، ما يعتبر غريباً في بيئة المنصات والشركات التي تعتمد على التكرار واللعب وفق القواعد التقليدية مضمونة الربح.
 
داني تشو مُتوتر وقلق مُنذ اللقطة الأولى (أدى الدور ستيفن يون الذي اشتهر في سلسلة The Walking Dead). الأصوات التي رافقت الشاشة السوداء في البداية، تقدم للمشاهد تصوراً حول ازدحام كبير، يظهر داني شارد الذهن وتركيز الكاميرا القريبة المبالغ فيه على وجهه يفصله عن بيئته عقلياً. يفشل داني في إعادة بعض الأغراض للمرة الثالثة لأحد المتاجر. تبدأ القصة بعدها بحدثٍ يومي عادي ومكرر لا يسفر عن شيء، عندما يطلق أحدهم بوقاً صاخباً من السيارة وبضع شتائم، وهو عرض جانبي يومي في المدينة، يحدث لأي سائق على الطريق. ينفجر داني بالصراخ على السائق الذي لم يره. يلتفت للجهة الأخرى ليرى إصبع السائق الوسطى تمتد له من الشباك. داني كان في المكان الخطأ وفي الوقت الخطأ وبحالة مزاجية سيئة. غاضباً، ينطلق ليلاحق السائق، وتنطلق مغامرته. من دون أن يعي ذلك، تَمدُ لداني الحادثة قيمةً مضافة للحياة، وتعطيه مساحة جديدة حتى يفرغ غضبه.
 
الأدوات التي أعادها معه من المتجر فقدت قيمتها بالنسبة له. القيمة الآن تكمن خلف هوية السائق الذي أثار غضبه. المقاول الفاشل ذو الأصول الكورية، يكتشف أن غريمته هي إيمي لاو (أدت الدور الكوميديان آلي وونغ)، منسقة زهور من الطبقة الوسطى العليا، ذات أصول فيليبينية صينية. لعدم معرفتها أيضاً بهويته، يذهب داني إلى منزل إيمي الفاخر ويخدعها بصفته مقاول بناء، حتى يستطيع أن يتبول على أرضية حمامها، لتبدأ بعدها رحلة الانتقام والأخذ والرد، حتى يصلا إلى الدرك الأسفل.
 
جنباً إلى جنب مع فريقه، يعرض كاتب المسلسل لي سونغ التباين الطبقي بين داني وإيمي في معركتهما القائمة، من دون جعله الصراع المركزي، مع توضيح تباينات أكثر بين حياتيهما وطموحاتهما وتناقض الشخصيات المحيطة بهما، والغضب هو المشترك الرئيس بينهما. شعورهما المستمر به يختلط مع الشعور بالعار والوحدة والخوف. المعلومات عن الشخصيات وخلفياتها وبيئتها أتت من النص بسلاسة. تلك المعلومات لا تغذي شيئا سوى عبثية العرض المتقنة. الغضب يغذي السرد الدرامي، وهو فسحة التأمل للشخصيات وما أدى إلى انهيار حياتيهما.
 
قد ننظر إلى العمل في المستقبل ونستخلص منه المزاج الجماعي الغاضب للسكان في هذا العصر؛ عصر الأمراض العصبية. على إيمي الابتسام دائماً، ورعاية ابنتها وزوجها الياباني جورج، إضافة إلى تحمل حماتها فومي غريبة الأطوار. جورج من عائلة فنية، والده يصمم كراسي غريبة، وهو يصمم مزهريات غريبة أيضاً. إيمي تمقت هذه المزهريات والكراسي، ولن تنجح الصفقة الأكبر في تاريخ مهنتهما من دون كرسي الأب، ما يضعها في توتر مضاعف. في المقابل، يحمل داني عبء والديه اللذين خسرا نُزُلِهما الصغير بسبب ابن عمهما المحتال آيزاك، وعادا بعدها إلى كوريا. هدفه الوحيد هو شراء منزل لهما ولمّ شمل الأسرة.
على امتداد التسع حلقات الأولى، يعترف الجميع بعيوبهم ما عدا إيمي وداني.
 
 تستمر معركتهما وكأن لا شيء حميمياً كالشجار. يظهر دور المحلل النفسي عند إيمي كنسخة دنيوية من الاعتراف الكنسي، في المقابل يعتقد داني أنه وجد خلاصه في الكنيسة. في الحلقة السابعة تأتي النهاية السعيدة، ونكتشف أنهما لا يبحثان عن الخلاص، والغضب ما زال كما هو رغم نجاحاتهما.
 
يُقدم العرض سرداً سينمائياً ذكياً لبنية نسيج مجتمعي، الفرد هو محوره والقيمة الأولى والأخيرة. هذا الفرد وفرديته لا قيمة لهما أمام القانون الذي يتساوى الجميع أمامه. يتكشف هنا تناقض ما بين القانون والعدالة. تظهر مساحة واسعة بينهما، تَحْتمل توظيف أي شخصية درامية تخطر على بال الكاتب. يُقَدم الإطار المفاهيمي للعمل مجتمع أميركا ما بعد الحداثي وشكل الحياة داخله، إضافة إلى قوانينه وأعرافه. ومع تفاعل الشخصيات، تتكشف للمشاهد أرض الواقع التي تتفاعل فيها هذه القوانين مع الحياة اليومية للأشخاص بأمزجتهم المتباينة.
 
الحلقة الأخيرة تجريبية وشاذة عن العرض، تختفي الكوميديا الخفيفة التي ساعدت على هضم السوداوية، وتبدأ رحلة جديدة لداني وإيمي ضد الحضارة إلى وسط اللاشيء، مُشبعين بالغضب والخوف بعد المجزرة التي حصلت في بيت المليارديرة البيضاء، مُصابين بكدمات وكسور بسبب حادثة الطريق الثانية بينهما، وبدون شبكة اتصال أو طعام أو ماء، ومع هلوسات قوية بسبب تناول ما اعتقدا أنه توت بري، يأتي الحوار ليقدم من خلاله الكاتب جل أفكاره الفلسفية.
أقسام الحلقة الأخيرة الثلاثة مستقاة من أيقونات سينمائية عالمية: دخول الفقراء إلى منزل المليارديرة والمجزرة ككناية عن الوصول إلى القاع تستحضر نهاية فيلم Parasite الصادر عام 2019، 
 
مع تأكيد على القناعة العالمية الليبرالية حول صرامة الحدود الطبقية، وأن نتيجة تخطي هذه الحدود هي خيار من اثنين، إما التحول إلى مجرم أو الموت، والرحلة ضد الحضارة استحضار لرحلة بطل فيلم Fight Club الصادر عام 1999 ضد الرأسمالية والمجتمع الفرداني الذي أفرزته،
 وأخيراً، كما في فيلم المخرج روبين أوستلند الأخير، Triangle of Sadness، تحضر المساحة المفرودة وسط اللاشيء، وكأنها سجن لا فكاك منه ولا طبقات اجتماعية فيه، وعلى الشخصيات للحفاظ على بقائها باستخدام أي طرق متوفرة، حتى لو لم تكن تمتّ للإنسانية بصلة، لكن هنا تحديداً لمسلسل Beef وجهة نظر أخرى.