مسلسل باري... مسيرة جندّي سابق يحاول تحرير عائلته

مسلسل باري... مسيرة جندّي سابق يحاول تحرير عائلته

أنهى باري بيركمان خدمته العسكرية في أفغانستان، ضمن قوات المارينز. وبعد عودته إلى الولايات المتحدة، نال المسرح من قلبه. وعلى الخشبة، أمضى جلّ أيّامه مع حبّ حياته، سالي ريد، ملقياً خلفه زمن الانصياع للأوامر. إلّا أنّ مرشده المسرحي، السيد كوسينو، ورّطه بتهمة جريمة قتل، ثم اختطف أسرته. هنا، لا بدّ لباري أن يسترجع مهاراته الحربيّة وقدرته على القتال في سبيل تحرير العائلة، ولو بذل حياته إزاء ذلك. 
 
هذا هو الاقتباس الهوليوودي لشخصية بيركمان، ضمن فيلم تخيّلي، كما توضح الحلقة الأخيرة من المسلسل الكوميدي باري، الذي اختتم عرض موسمه الرابع والأخير على شبكة HBO نهاية شهر مايو/أيار الماضي. وحقّاً كان ما شاهدناه مسيرة جندّي سابق يحاول أن يطأ خشبة المسرح وينهمر عليه الضوء، بينما في الظلّ هو قاتلٌ مأجور. 
يجّسد المسلسل ما لا نراه ضمن عالم الترفيه، فيبتعد عن تشذيب المعاناة أو تنويع شخصيّاته عرقيّاً، ويُعرِض عن معظم المعايير السائدة، كتقديم العِبر، أو الوصول إلى الخلاص كمنفرج للشخصيات نقيضة البطل.
يُدرك المسلسل، بعكس شخصيّاته، أن درب الغفران شائك، والوصول إلى الخلاص ليس أمراً حتميّاً. وفي سبيل ذلك، يغرق في معضلات وجوديّة عن المفاضلة بين ما تبرع به مقابل ما ترغبه، ما تريده أن يكون واقعاً، وعبثية الواقع.
يصعد "باري" فوق التصنيفات التقليدية للمسلسلات. فرغم السخريات الجليّة وأسطر الحوار المضحكة في غالبها، يمتلك حسّاً عالياً في التشويق والإثارة وتنفيذ مشاهد المطاردات والاشتباك. ولا يقتصد بحضور الشخصيات الشريرة، وفي بعض الأحيان الماورائية. أضف إلى ذلك، رؤى تجديديّة للهلاوس تترك الإرباك للجمهور. لا يحضر أي من هذا مجاناً، بل يدفع القصة أماماً، ويسند الشخصيات للجدار.
ينفرد المسلسل بمكانة عليا على تجارب حاولت خلط نمطي الكوميديا والجرائم، إذ يستثمر العمل بذهانيّة شخصيّته الرئيسية كعاملٍ متوقع لاضطراب ما بعد الصدمة، ويستعرض بسخريّة متقنة أثر كليشيهات مجال الترفيه على الشخصيات الغرائبية المحيطة بعالميه؛ الممثل المبتدئ والقاتل المحترف.
 
رحلة إلى الغفران
بدأ العرض مع مرحلة الحلقات المنفصلة التي تُعنى بمهمّات اغتيال ينفّذها باري، إلى جانب بداية حضوره دروساً في التمثيل، وضَمن بذلك وصفاً مقتضباً يغوي بالمشاهدة؛ هو قاتلٌ علنيّ، وممثل سرّي. إلّا أنّ المسلسل لم يقبع كثيراً في أي منطقة راحة، وانتقل قبل نهاية الموسم الأول إلى قضيّة جوهريّة مترافقاً مع وصول بيركمان إلى قناعة بالتوقف عن ممارسات القتل. ضيَّقَ المسلسل الخناق على شخصيّاته، وبنى بحرص شديد عواقب أفعالهم؛ إذ يصبح الصراع بين رغبة/قناعة الشخصيّات وورطاتٍ ناجمة عن ماضٍ لا يزال فاعلاً في حيواتهم. ذلك ما نراه عند إقدام باري على قتل المحققة جانيس موس -عشيقة مرشده المسرحي- بعد أن كشفت أمره كقاتلٍ مأجور. هنا، يوقف بيركمان توبته مؤقتاً، ثم يكرر أنه تائبٌ منذ اللحظة. 
على مدى موسمين لاحقين، سنكون على موعدٍ مع باري وسعيه إلى أن تكون أي مهمّة هي الأخيرة، بين تخبّطاته وسط صراع عصابات عدة، أو حين يعارض عرّابُه في حياة الجريمة، فيوكس، موقفَه من اعتزال المهنة المربحة، وبالتأكيد التحقيق المستمر في جريمة قتل المحقّقة. 
يغذّي هذا المسار اضطرابات باري في حياته المشتهاة، وينعكس هذا في اضطهاده اللاحق لسالي، شخصيّة هي بدورها تسعى لتجاوز الماضي، وتروي لنفسها ما يريح الخاطر، وما يفضّله الجمهور.تحضر هذه المعضلة عند كلّ الشخصيّات، وينفرد كلّ منها بسعي مشوّه للخلاص. يُحسب للمسلسل صياغة أحداثه ومواقفه بناءً على شخصيّات يعوزها الذكاء، ويتمكّن باقتدار أن يكون أحد أذكى الأعمال الفنيّة خلال العقدين الأخيرين، مع رصده نوازع النفس البشرية إن سُخّرت لها إمكاناتٌ كبرى وقدرٌ ضئيلٌ من الألمعيّة.يزاوج المسلسل بين دموية مفرطة تصوّب سخريتها من الإنتاجات الهوليوودية، متتبعاً حروباً ساذجة بين العصابات، ودواخل صنعة الترفيه متخذّاً من قاع الوسط الفني مجالاً للسخرية والتعرية، تاركاً تعليقاً معاصراً عن سُبل الإنتاج ومآلات ذوي الأحلام المتكسرة. تحقّق شخصيّة باري الجمع بين العالمين. ويتدفق سيلٌ لا ينتهي من الإيماءات عن نظام العدالة، فالشرطية هي الضحية الوحيدة التي نشهد تحقيقاً جدّيّاً بشأنها، وعن مقاييس النجاح الفنّي كما في مسلسل سالي الملغى نتيجة لعدم توافقه مع خوارزميّة المشاهدة، ولأي مدى يتبع الأفراد بنرجسيتهم الزيف الذي يمنحهم شعوراً أفضل حيال ما اقترفوه، لكن هذه التفسيرات لا تحدّد قيمة المسلسل، فأهميته تأتي من المتعة الحاضرة عند المشاهدة في المقام الأول.
 
النهاية في موعدها
سيبقى يوم 28 من مايو/أيار لهذا العام معلَماً عند دراسة مميزات عصر الإنتاج التلفزيوني الحديث؛ إذ امتلك العقل الإبداعي ناصية إنهاء العمل الفني، وأسدلت الستارة على مسلسلي Succession وباري في قمّة عطائهما. 
لم يكتف المسلسل بخروجه عن التقليديّة في خواتيم كلّ موسم منه، واستئثار كلّ منها بسؤال تشويقي ولحظة حرجة في انتظار الموسم التالي، يرفع الموسم الأخير التحدّي، مدخلاً أنماطاً من الروي غير معتادة في الكوميديا، ونشهد في منتصف الموسم قفزة زمنيّة لبعد ثمانية أعوام.
نرى الثنائي الفارّ من العدالة، باري وسالي، في مكان منعزل، وقد رُزقا بفتى اسمه جون. يمارس الزوجان دورهما الختامي بعد مسيرة تمثيل فاشلة، فيختلقان هويّات مزيّفة. يحاول باري عدم تعريض ابنه لأي نوعٍ من العنف، وتغطّي سالي شعرها الأشقر بآخر مستعار لا يخدع أحداً. يصل المسلسل عند هذه المرحلة إلى القدرة أن يماثل الأفلام المستقلّة، ويكافئ بمجازفته الناجحة جمهوراً بحسٍّ وذائقة فنيّة لا تجد ما ينصفها في الإنتاج السائد.
قدّم "باري" هذا المزيج المهول من الكوميديا والعنف عبر جرعاتٍ من 25 لـ30 دقيقة في كلّ حلقة، نجحت دوماً في الإبهار على المستويات كافة، وأبقت النسق التصاعدي حاضراً مع لحظاتٍ تكسر مناخ المشهد؛ بتبادلٍ رشيق بين الدموية والضحك، في مسلسل قادّ دفّته بيل هادر كاتباً ومخرجاً وممثلاً رئيسيّاً، تاركاً للثقافة الشعبية شخصيّاتٍ جانبيّة أيقونيّة مثل نوهو هانك زعيم العصابة الشيشانية، ومشاهد قتاليّة يصعب تصور حضورها في مسلسل كوميديّ.