كانت المتهم المثالي:

هل من لقاح لإنقاذ منظمة الصحة العالمية...؟

هل من لقاح لإنقاذ منظمة الصحة العالمية...؟

-- إن نقائص منظمة الصحة العالمية ليست جديدة، ومع كل أزمة صحية حاولت المنظمة إعادة تنظيم نفسها
-- يوضح الوباء أنه في عالمنا المترابط، تعد الصحة مشكلة عالمية، والحل الوحيد هو العمل معًا
-- ليست هذه هي المرة الأولى التي يهدد فيها عامل ممرّض الأمن الصحي العالمي
-- حتى العام الماضي، لم تتجاوز ميزانية منظمة الصحة العالمية نصف ميزانية المستشفيات في باريس
-- المنظمة مجبرة على أن تبني استراتيجيتها وفقًا لمتطلبات الدول الأعضاء أو الجهات المانحة الخاصة


الوباء، الذي تمت مراقبته بعيون فضولية، ولكن دون اكتراث الغرب الذي شعر أنه غير معني، أدى إلى قلب العديد من المعتقدات رأسًا على عقب. وشيئًا فشيئًا، مرتاب من أن يجد نفسه هشا، كان لا بد من إيجاد الجاني المعيّن. إلى درجة أنه عندما حان وقت المرور إلى العمل واتخاذ الإجراءات، لم يكن أحد يستمع، من شدة الرعب مما كان يحدث في مجتمعاتنا.
   منظمة الصحة العالمية، التي نادرا ما يُسمع لها صوت في العادة، احتلت مقدمة المسرح، مثبتة أنها قائد أوركسترا سيء. وللحقيقة، كنا نعرف ذلك مسبقا. لقد تم الحكم عليها بأنها بطيئة للغاية، ومرهقة للغاية، ورسمية للغاية، وتصالحية للغاية تجاه الصين، وليست منخرطة بما يكفي في العمل، وانها في خدمة وقبضة كبار الممولين من القطاع الخاص، بيل جيتس في المقدمة.    الجاني المثالي، تمت الاشارة للمنظمة لعدم قدرتها على وقف هذا الوباء.
   إن نقائص منظمة الصحة العالمية ليست جديدة. ومع كل أزمة صحية، حاولت المنظمة إعادة تنظيم نفسها.

وإذا كان بالإمكان مدح هذه المراجعة الآلية، أليس في هذا دليلًا على أن المنظمة تكتفي فقط بملاحقة الأحداث دون أن تكون قادرة على أي توقع؟ بينما بخصوص الصحة، تظل أفضل استراتيجية هي الوقاية دائمًا.
   ومع ذلك، ليست هذه هي المرة الأولى التي يهدد فيها عامل ممرّض الأمن الصحي العالمي. عام 2003، جاء سارس كورونا لاختبار قدرات رد الفعل لدينا. وإنفلونزا “إتش1إن1” عام 2009، وميرس كورونا في الشرق الأوسط عام 2012، وإيبولا عام 2014. وتعرضت منظمة الصحة العالمية لانتقادات لكونها كانت متسرّعة جدا بالنسبة للإنفلونزا عام 2009 -لتسببها في الذعر وأنها كانت في خدمة شركات الأدوية التي باعت ملايين اللقاحات -وبالبطء الشديد أثناء تفشي فيروس إيبولا.

   أزمة قام خلالها العاملون في المجال الإنساني ببناء البروتوكولات الأولى، واستمروا في تنبيه المجتمع الدولي ومنظمة الصحة العالمية التي أصبحت حذرة. عام 2018، في جمعية الصحة العالمية، أثيرت فرضية خطر الإصابة بمرض ناشئ يسمى «X» ، وكان هناك حديث عن فيروس تنفسي يمكن أن يكون مسؤولاً عن “جائحة قادمة” يجب الاستعداد لها. بعد 18 شهرًا، يبدو أن كوفيد-19 قد فاجأ العالم.
   في مواجهة هذه الأزمة، كان العالم يتوقع من منظمة الصحة العالمية، كما يوحي اسمها، أن تدير هذه المشكلة الصحية التي تؤثر على الجميع. بدلاً من ذلك، تم اتهامها بكل الادواء: فشلت في ردّ الفعل، وفشلت في الحصول على أرقام شفافة من الصين، حيث بدأ الوباء، وفشلت - ولم ترغب في فرض قيادتها هناك. وخصوصا، فشلت في وقف انتشار الوباء قبل أن يصبح جائحة.

  لقد فشلت في مراعاة العامل البشري للوباء، عندما أبطأت في الربيع في التوصية بالكمّامة للجميع، خوفًا من الشعور الزائف بالأمان بين السكان الذين سيطبقون بعد ذلك تدابير الوقاية الأخرى بشكل أقل.
   غير قادرة على ادارة تنسيق أبحاث اللقاحات، دعت الى أن يكون اللقاح ملكية عامة عالمية، بينما تحتفظ الدول القومية وتدفع ثمن لقاحات لم يتم اختبارها أو التحقق من صحتها مقابل مبالغ غير لائقة. ومع أن الكلمات الرئيسية هي التنسيق والتضامن، فإن منظمة الصحة العالمية لم تدعو تايوان (التي لم تعد عضوًا في منظمة الصحة العالمية منذ عام 1971) إلى اجتماع جمعية الصحة العالمية في مايو الماضي، رغم أنه كان بإمكان تايوان تقاسم تجارب نجاحها في الأزمة الصحية.

منظمة الصحة العالمية ثقيلة للغاية ولا تتكيف مع التحديات الصحية اليوم. إذن ماذا تفعل منظمة الصحة العالمية؟ أو بالأحرى من يفعل منظمة الصحة العالمية؟
   ببساطة لم تستطع منظمة الصحة العالمية ان تكون في المستوى، حتى في النصوص. اللوائح الصحية الدولية، وهي صك قانوني دولي ملزم يهدف إلى منع انتشار المخاطر الصحية عبر الحدود، لها هدف مخصوص. والهدف الحقيقي لهذه اللوائح الدولية هو إقامة إجراءات صحية عامة متناسبة “مع تجنب خلق عقبات غير ضرورية أمام حركة التجارة الدولية”. لأن الأمر كله يتعلق بهذا: منظمة الصحة العالمية مدعوة لحل المشكلة بأقل تأثير ممكن على الاقتصاد. وفي غياب قدرة حقيقية على العمل، تبخّر الهدف المزدوج المنشود وقد تحول إلى مهمة مستحيلة. حتى الآن، تقدر تكلفة كوفيد-19 بنحو 11 تريليون دولار، بينما تجاوزنا معلمًا رمزيًا يتمثل في مليون حالة وفاة عبر العالم.

   يذكر أن منظمة الصحة العالمية، مثل أي منظمة دولية تابعة للأمم المتحدة، لديها فقط السلطة التي ترغب الدول الأعضاء في منحها لها. وهي تعمل وفقًا لقانون تضعه الدول الأعضاء نفسها، والتي بذلك تحدّ من سلطتها.     وفيما يتعلق بمنظمة الصحة العالمية، يتفق الجميع على أنها تملك القليل جدًا، فكل دولة تريد الاحتفاظ بسيادتها. واذ كان صحيحا أن اللوائح تمنح منظمة الصحة العالمية دورًا تنسيقيًا في حال حدوث وباء، فقد تم دائمًا رفض منحها سلطة العقوبة، مما يحد من قدرتها على العمل.
   من جهة اخرى، حتى العام الماضي، لم تتجاوز ميزانية منظمة الصحة العالمية نصف ميزانية المستشفيات في باريس. وتتكون هذه الميزانية من عنصرين، ولكن تظل مساهمات الدول والأموال المرنة أموالاً “مخصصة”، أي أنها تخضع لموضوع محدد مسبقًا من قبل المتبرع نفسه.

  وهكذا نفهم بشكل أحسن سبب عدم قبول دونالد ترامب، في الربيع الماضي، رؤية المنظمة تتصرف بطريقة مختلفة عما قد “يتوقعه” أكبر مساهم مالي في منظمة الصحة العالمية. ان هذا الأسلوب في التمويل يبطل أي تلميح لحرية العمل من جانب المؤسسة، التي يجب أن تبني استراتيجيتها وفقًا لمتطلبات الدول الأعضاء أو الجهات المانحة الخاصة، مما يثير المزيد من الأسئلة.
   علاوة على ذلك، إذا اضطرت منظمة الصحة العالمية إلى انتظار إذن من الصين لتعيين فريق من الخبراء على الميدان في يناير، فذلك، ببساطة، لأن إرادة الدول الأعضاء لا ترى منظمة فوق-الدولة تفرض نفسها على أراضيها الوطنية. من ناحية أخرى، في مواجهة الضرورة المطلقة للوصول إلى البيانات وأماكن الظهور، كان من المهم البقاء في علاقة طيبة مع الصين.

   ومع ذلك، متجاهلة الانتقادات، واصلت منظمة الصحة العالمية العمل على التنسيق بين المناطق، وتحسين قدرات الردّ على الوباء لبعض البلدان، وتسريع البحث والتطوير. فقد تم إرسال الإمدادات الطبية إلى 133 دولة، وقدمت بروتوكولات الوقاية والتدريب بأكثر من 13 لغة مختلفة، وتم تصدير 1.5 مليون مجموعة تشخيصية إلى 126 دولة مختلفة اعتبارًا من الربيع. واليوم، يتم شحن 112 مليون مجموعة اختبار إلى البلدان الضعيفة والمتوسطة الدخل.

ما هي الاستراتيجية الاتصالية للمنظمة امام حملات نزع الشرعية؟
   مننذ بداية الأزمة، أصدرت منظمة الصحة العالمية نشرات تتناول الأوضاع اليومية إلى 194 دولة عضو وبها توصيات. وتضيع الإحصائيات في وسط غابة الأكاديميات التي تنشر بياناتها الخاصة. ويتم تجاهل التوصيات لإفساح المجال للجان العلمية الوطنية، مثل موقع مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة.

   من جهة أخرى، وباستخدام الخبرة المكتسبة عام 2014 عندما قوضت الشائعات الكاذبة استراتيجية استجابة المجتمع، تعمل منظمة الصحة العالمية على دحض الأخبار الزائفة يوميا. والإيبولا في غرب إفريقيا هو أول وباء يتأثر بوسائل التواصل الاجتماعي. ففي حين يتم تقديم هذه التقنيات الجديدة كأدوات مبتكرة تسهّل الإدارة الصحية، أظهرت في تلك المناسبة جوانبها المظلمة، وخاصة قدرتها على تضخيم وتشويه الرسالة حتى تصبح مسببة للأمراض.    واليوم، ومنذ عدة أشهر حتى الآن، كان كوفيد-19 أحد أكثر الكلمات الرئيسية شيوعًا على الشبكات الاجتماعية. يمكن أن تحتل كل فكرة صدارة المسرح، اذ لا يتعلق الأمر بالصدق العلمي أو الشرعية الطبية، بل يتعلق بالجمهور الرقمي. يجد مستخدم الإنترنت نفسه أمام كتلة هائلة من المعلومات دون أن يكون قادرًا على التمييز بين المعلومات “الزائفة” والمعلومات الحقيقية.

   وإدراكًا منها للضرر الذي يمكن أن يولّده ذلك في الثقة الشعبية، تحاول منظمة الصحة العالمية تصحيح بعض الحقائق وتفكيك الأساطير التي لا تزال متداولة حتى اليوم من خلال    صفحة الويب “إنهاء الأفكار المسبقة” سواء صادرة عن رئيس أمريكي أو مواطن عادي. ونتعلم منها، من بين أشياء أخرى، أن: لا، استخدام ماء جفال لا يحمي من كوفيد-19، ولكنه خطير؛ لا، الجيل الخامس لا ينشر كوفيد-19؛ لا ، القدرة على حبس أنفاسك لمدة 10 ثوان لا تعني أنك في مأمن من المرض ؛ لا ، أكل الثوم لا يقي من فيروس كورونا ، إلخ.
   بعد عشرة أشهر من ظهور كوفيد-19، ما زلنا لا نملك لقاحًا أو علاجًا محددًا. وإجراءات الوقاية وسياسة الاختبار هي أسلحتنا الوحيدة. ويوضح الوباء أنه في عالمنا المترابط، تعد الصحة مشكلة عالمية، وان الحل الوحيد لمواجهة هذا الوباء، هو العمل معًا من خلال التعاون.
   إن تعددية الأطراف ضرورية لنجاحنا اليوم... ونحن نحتاج إلى منظمة صحة عالمية أقوى.
- تم نشر هذا المقال في إطار مرصد معلومات مضللة والجغرافيا السياسية في زمن كوفيد-19 في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية