ضرب لنا والدي مثلا ونحن على مائدة العشاء، كان الهدف منه التمسك بالحلم، والبحث في الذات عن مصدر للحياة، يقول كان لنا جارة اسمها بهيه، طلب منها ترك دارها لابنها الوحيد ليتزوج فيه، فما كان منا إلا ان تستسلم، وتسير بخطوات بطيئة نحو الباب الخلفي للدار، تجلس على أريكة صنعتها من خشب، حفرت تاريخها على ملمسها الناعم، وبعينين شاخصتين تتأمل حركة الحياة وهى تمر من أمامها، أربعون عاما من الكفاح والتمسك بالدار وانتظار الحبيب، شعورها بفقدان الأمل وضياع الانتظار، وموت الهواء القادم عند شروق الشمس، سحب من جسدها جزء مهم جدا للغاية

لم تعد “بهية “ كسابق عهدها جميلة، ممشوقة القد مبتهجة، تشع السعادة من وجهها الأبيض، وعيونها الخضراء، بل تبدل وجهها وانطفئ بريق السعادة وتلاشت الابتسامة من ملامحها البريئة، منذ فراق الحبيب من عام، تستند على جدار الدار الذي ينزف عرق، صامته بلا حراك، وعينيها تتابع خطوات السكان الجدد وهم يحملون ما تبقى لها من ذكريات داخل غرفتها القابعة في بهو الدار، يحملون على الأكتاف الخزانة وينتهكون عرض ملابسها، حتى السرير الذي عاش معها أحلامها لم يسلم من أياديهم الملطخة بالاعتذار والمباركة، كان يجب عليها أن تفرح أن تسعد أن تساعدهم في أخلاء الدار، فمهما مضت اللحظات، سيسكنها جزء منها وستبقى ذكرياتها تتجول في أركانها

 «بهية” رفضت أن تترك روحها العالقة بالجدران وتمضي بجسها بعيدا، من مكانها مدت يديها لتنزع رائحتها من على الجداران الإسمنتية، تلملم ذكرياتها من تحت المقاعد والأدراج المغلقة على هموم عمر مضى، مر بكل ما فيها من ألم، تمسح بصماتها من على الأبواب بقطعة قماش بيضاء مبللة بحبر الزمن، تلتقط أنفاسها بعد هذا الجهد الكبير، بتنهيدة قوية من صدر اتسع للكون، أنهت دورها في هذا الحيز الضيق من العالم، لتصعد درجات السلم وتدفع باب غرفة مصقلة بعطر الحبيب، تلقي بكل ما لديها من ذكريات على سرير مرتب بملايات خضراء، ووسادة بثوبها الأبيض الناصع
وهى على هذه الحالة تداعب لفحة هواء وجنتيها وتلمس خصيلات شعرها البارزة من تحت الحجاب، تبلل شفتيها برحيق الزهور، تغلق عينيها في نشوة جميلة احستها حين آتاها الحبيب بعد طول انتظار، لتبدء معه رحلة ابدية في غرفة لم يلمسها الغزاة