شخصيات في حياتنا
يدخل أشخاص حياتنا مدة زمنية لا تتجاوز النصف ساعة، ويكون لهم الأثر في تغيير مسار حياتنا وسلوكنا وتصحيح مفاهيم راسخة في وجداننا بصورة خاطئة، من هؤلاء الأشخاص سليمان الجوهري الملحق الثقافي المصري في النمسا، هكذا عرف نفسه عندما كنت أجلس خلف مكتبي بإحدى الشركات بعد التخرج مباشرة، وقفت لأحييه ولم أجلس إلا على الكرسي المقابل له بعيداً عن الرسميات تقديراً له
تبادلنا أطراف الحديث حول اختلاف العادات والتقاليد في أوروبا ونظرتهم للشرق، وموضوعات كثيرة كان يجيب بصدر رحب وحسن خلق وهدوء جم، رجل أنيق في الخمسينيات من عمره وسيم مظهره أنيق كلماته مهذبة، حضر حسب موعد مع صاحب الشركة وكوني علاقات عامة جلس بمكتبي، دفعه القدر ليعلمني معنى التواضع وفن الكلام والإتيكيت في الجلسة ولغة الجسد والابتسامة الخفيفة الهادئة التى توحي باستمرار الحوار وأنه سعيد باللقاء.
عندما دخل موعد صلاة الظهر طلب مني أن يصلي، فبديهي أن أوجهه لمكان الوضوء إلا أنه طلب مكاناً للصلاة فهو على وضوء، هيأت له المكان وتنحيت جانباً أفكر في اهتمامه بالخروج من البيت على وضوء، فلو كانت صلاة العصر لكان محافظاً على وضوئه، فغلبتني النفس اللوامة وأجبرتني على محاكاته وأخذ هذه الصفة منه والعهد على أن أستمر في الوضوء كلما خرجت من البيت وأجدده باستمرار حتى إذا خرجت بعد صلاة العشاء.
لم يوجهني السيد سليمان الجوهري ولم ينظر علي ولم يوصني بهذا العمل النبيل، لم يحاول أن يثبت أنه تقي وورع وصاحب كرامة، رجل مع كل ما هو عليه إلا أنه متواضع لا يتحدث إلا إذا وجهت له الكلام، لم يدعي النجاح والتميز وسرد جولاته واستدعاء نشاطه والحديث عنه أو استخدام ألفاظ من اللغة الإسبانية في حواره باللغة العربية ولم يتلعثم بحجة أنه لم يعرف معنى الكلمة بالعربي، شخص طبيعي معلم قادر على بناء جسر من الود في وقت قصير.
وضع بفعله البسيط دستور حياة لشاب في مقتبل العمر، جعل من نفسه قدوة بالكلام، نموذجاً مشرفاً بدون ضوضاء، كان داعياً للفضيلة بصمت، لا يحتاج لصوت جهوري أو منبر يصرخ من فوقه في الناس، كم شخص مثلي اتبع نهجه وأحيى سنة، لم يعرفني ولم أترك عنده بصمة بل هو من ترك في وجداني بصمة استمرت أكثر من ثلاثين عاماً، أقل من نصف ساعة أضاف لحياتي معنى ورسخ بداخلي مفهوما جديداً، أن تحذر التفاهة وتتجنب الأشياء غير المفيدة فربما هناك من يتابعك وتترك لديه انطباعاً ولم تعرفه، فالأفضل أن نترك انطباعاً حسناً وسلوكاً طيباً في نفوس البشر، أحسن من ترك صفات غير حميدة لأشخاص وثقوا فينا.