لم يؤد وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض إلى إنهاء الاستقطاب في الحياة السياسية الوطنية كل ما في الأمر أن التيار السائد غيّر معسكره.   أخيرًا، اختفى دونالد ترامب من المشهد. مع وجود جو بايدن في المكتب البيضاوي، يبدو المشهد السياسي الوطني هادئًا، مقارنة بالسنوات الأربع الماضية. يمضي الأمريكيون أيامًا، أو حتى أسابيع، دون التفكير في رئيسهم، إلا أن الآلة الكبرى لتحويل الموضوعات التي يكون لأغلبهم آراء مختلطة بشأنها إلى مسائل ثنائية تميز “الوطنيين” عن “أعداء الشعب”، مازالت تواصل العمل بالنجاعة  نفسها .

   الأمر الأكثر إحباطًا هو أن دورة السخط والتحقير هذه قد أصبحت أيضًا القاعدة في التيار السائد الثقافي والفكري. حتى وقت قريب، كان الكتاب والأكاديميون الأمريكيون يرون أنّ من واجبهم فحص القضايا الملتهبة باستخدام مهاراتهم الذاتية، والتساؤل من منطلق اية مبادئ عميقة يمكنهم تسليط الضوء على الجدل الأخير، وبدلاً من ذلك، تحوّل معظمهم إلى مستشارين للعلاقات العامة، يخدمون معسكرهم، منددين حتى بقيم أساسية أو حقائق واضحة، هذا إذا لم يلتصقوا بسردية من يعتقدون أنه على حق.

   لنأخذ موضوع حرية التعبير. لعقود من الزمان، تمرد التيار السائد ضد محاولات المحافظين والإنجيليين حظر الكتب من المكتبات العامة والمناهج المدرسية التي يعتبرونها مشكوك فيها أخلاقيا. ووفقًا للكتّاب والأساتذة، كانت هذه الأشكال من الرقابة إهانة مباشرة لقيم الديمقراطية الليبرالية، وهذا صحيح تمامًا.

   اليوم، اليسار هو الذي يمارس سلطة ثقافية في معظم أنحاء البلاد، وسرعان ما توصل التيار السائد إلى أشكال من الرقابة تشبه بشكل مفاجئ تلك التي وصفتها انفا. عندما اتهم بعض مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الدكتور سوس، أحد أكثر مؤلفي أدب الأطفال المحبوبين في أمريكا، بإدراج تصميمات مسيئة في كتبه الأولى، بدأت الآلة الكبرى لثقافة الإلغاء في التحرك. وفي غضون أيام، أعلن الناشر أنه لن يبيع الأعمال المعنية، وقامت مكتبة شيكاغو العامة بإزالتها من مجموعتها، وحظرت ايباي النسخ المستعملة من منصتها (مع استمرار السماح بالبيع الناجح لـ كفاحي».
   حتى أولئك الذين، مثلي، لم يكبروا مع دكتور سوس، وليس لديهم علاقة عاطفية خاصة بكتبه، يجب أن يروا ان هذه الحلقة مزعجة، ويجب أن يشعر أي مدافع عن القيم الليبرالية ببعض التوتر عندما يتم حظر أعمال لأسباب تبدو أنها تعسفية واعتباطية. لكن أكثر ما صدمني في هذه الحلقة، هو كيف نجحت آلة صنع “الاستقطاب” في أمريكا في حشد كل كتاب يسار الوسط في البلاد لصالح هذا الحظر.

متلازمة النقيض 180 درجة
   حالما تم الإعلان عن حظر الدكتور سوس، شجبه اليمين بعبارات تقترب أحيانًا من المبالغة، وأمضت قناة فوكس نيوز يومًا كاملاً في تغطية الجدل. وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، أدلى عدد من المنتقدين بتصريحات سخيفة بالغت إلى حد كبير في رهانات القضية.
   كان من الممكن أن يكون الرد الأخلاقي هو إدانة عبثية تصوير الدكتور سوس على أنه تهديد، الى جانب السخرية من رد فعل فوكس نيوز المبالغ فيه. وبدلاً من ذلك، قرر المنستريم أنه يتعين عليه معارضة كل ما يقوله المحافظون تمامًا، عبر تدفق لا نهاية له من التغريدات والبيانات ومقالات الرأي في واشنطن بوست أو نيويورك تايمز.

   هذا المنطق نفسه، يمتد إلى مرتكبي العنف السياسي. الولايات المتحدة هي اليوم موطن لحركة صغيرة وعنيفة للغاية تسمي نفسها مناهضة للفاشية بينما تحتفظ بالحق في مهاجمة أولئك الذين لا يتبنون أفكارها. وفي مدن مثل بورتلاند وسياتل، ارتكب نشطاء “أنتيفا” أعمالا خطيرة، منها القتل في بعض الأحيان. وقد استغل اليمين المتطرف هذه الأحداث لتضخيم الخطر، بل إن بعض المعلقين اقترحوا بشكل فجّ أن الهجوم على مبنى الكابيتول هيل نفّذ من قبل نشطاء يساريين متطرفين.

 ومجددا، الموقف المتماسك والمنسجم واضح: إدانة، في الوقت نفسه ، هؤلاء النشطاء المزعومين المناهضين للفاشـــــــية، وكذلك محاولات المحافظين تحميلهم مســــؤولية أفعال لا دور لهم فيها. لكن، مرة أخرى، فعل التيار السائد عكس ذلك تمامًا.
  أمريكا جو بايدن تتصارع الآن مع ما، بناءً على نصيحة زميلتي إميلي يوفي، بدأت أسميه، متلازمة النقيض 180 درجة. ان الكثير من البلاد على استعداد لاتخاذ أي موقف تقريبًا، سواء كان ذلك غبيًا أو خطيرًا، إذا كان في معارضة مباشرة للعدو. وطالما ساد هذا المنطق، ستستمر الحرب الثقافية في إحداث الفوضى -وسيكون لدى ترامب أو مقلديه ما يكفي من الوقود لتنظيم العودة السياسية.